«الآن فهمتكم» جملة قالها الجنرال «شارل ديجول» يوم أن أدرك أن استقلال الجزائر بات ضرورة حتمية.. وقالها «زين العابدين بن علي» عشية هروبه وخلعه من شعبه.. وقال ما معناها «مخلوع مصر» ليلة تدبيره مع رموز عصابته لما اتفقنا علي تسميته بموقعة الجمل.. وظني أن الشعب المصري سيقولها قريباً لأولئك الذين يمارسون السياسة، متدثرين بعباءة الدين! حزب الحرية والعدالة المفقوس عن جماعة الإخوان المسلمين، حقق نجاحا مذهلاً ومريباً، في انتخابات مازلنا نقول عنها نزيهة – حتي إشعار قادم – كما حقق حزب النور المفقوس عن الجماعات السلفية.. انتصارا غير مفهوم علي الإطلاق.. وبما أنني لا أستطيع إلا أن أنحني تقديراً للشعب، سأوافق علي أن تلك النتائج للحزبين هي نتائج لمعارك انتخابية ديمقراطية حرة.. لكن عقلي – وهم يكرهون العقل والتفكير – يأخذني إلي عدة أسئلة مهمة: أولها: بافتراض أن الأغلبية الكبيرة جدا، تتجه نحو حزبي الحرية والعدالة والنور فمن هو ذلك الطرف الثالث.. أو «اللهو الخفي» الذي يمارس الفساد في الوطن؟ فالأغلبية المتدينة التي تبحث عن العدالة.. لا يمكن أن تكون هي نفسها أولئك الذين يمثلون جهازاً إدارياً مترهلاً وفاسداً.. هذا ليس كلامي بل هي الحقيقة علي الأرض.. فحزب الحرية والعدالة والنور يتحدثان ليل نهار عن الفساد الذي يضرب بجذوره في أعماق الوطن.. ويدعيان أنهما الأقرب للشعب.. وبما أن الشعب انتخبهما فهو قريب منهما.. ذاك يعني أن منسوب الفساد أقل بكثير، من منسوب الشعبية الجارفة التي يتمتع بها الحزبان.. لكن الحقيقة أن المنسوب في الاتجاهين تأكدنا من انه واحد! ثانيها: إذا كان حزب الحرية والعدالة باعتباره مفقوساً عن جماعة الإخوان المسلمين بعمرها الذي يتجاوز 83 سنة.. قادراً علي الفوز بنحو 42% من مقاعد البرلمان.. فهذا طبيعي ونتيجة عمل لما يقرب من القرن في العمل الاجتماعي والسري والسياسي.. لكنني أبحث عن عاقل يقدم لي المبررات المنطقية، لفوز حزب النور – السلفي – بما يقرب من 25% من مقاعد البرلمان! ثالثها: أن حزبي التيار الإسلامي الرئيسيين – لدينا أحزاب تزعم أنها إسلامية غيرهما – بدا انهما متنافران.. بل متصارعان.. وأضف إلي ذلك أنهما يرفضان الائتلاف تحت قبة البرلمان، ولتشكيل حكومة اغلبية.. وهذا يعني أن الإسلام وفق رؤية هذا تختلف عن الإسلام وفق رؤية ذاك.. بل إن الطريق إلي الجنة عند هؤلاء، لا علاقة له بالطريق إلي الجنة عند أولئك.. فهل هما يمثلان ديناً واحداً.. أم أنهما يمثلان رؤيتين سياسيتين مختلفتين، ونجح كل منهما في خداع الأمة برفع راية دين واحد.. وعندما كان الصراع يحتدم كنا نجد أنفسنا بصدد دين يتناقض مع الآخر.. وحتي بعد أن نجح، راح الحرية والعدالة يبحث عن الوفد الليبرالي – الملحد والكافر وفق رؤيته الإسلامية – وراح حزب النور السلفي يتفاوض طالباً التحالف مع مجموعة احزاب الكتلة المصرية، التي كانوا يصارعونها باعتبارها تمثل «الكفار».. فهل كانت الأحزاب الليبرالية خارجة عن الملة لحظة البحث عن كراسي البرلمان، ثم أشهرت إسلامها لحظة الحاجة إلي تعزيز النفوذ، والبحث عن مداخل للتمكن من السلطة؟! أم أن «الشعب المصري الشقيق» تعرض لأكبر عملية خداع ونصب غير مسبوقة؟ رابعها: إذا كانت الأغلبية الساحقة من الشعب قد اختارت الأحزاب المتدثرة بعباءة الدين، وذهبت راضية مرضية إلي هذا الطريق.. فما معني قطع الطرق ومسارات قطارات السكة الحديد.. وما معني إعلان العصيان والتمرد في أرجاء الوطن من أقصاه إلي أقصاه.. وما معني هذا الإحباط الذي يعاني منه «الشعب المصري الشقيق» بأغلبيته الساحقة؟ اللهم إلا «الجالية المصرية في القاهرة» التي قررت أن تنتفض، ولعلها تتوحد لقيادة ثورة جديدة ضد المؤامرة علي الشعب بعد ذهاب المخلوع. خامسها: نعلم جميعا ان الذين سقطوا شهداء من شباب الثورة، ليس بينهم إلا القلة من أولئك الذين يمارسون السياسة تحت مظلة الدين.. قد تكون تلك مجرد مصادفة.. لكنني لا بد أن أطرح سؤالا: أين أولئك المحامون الذين صدعونا بأنهم الأغلبية في نقابتهم من تيارات الإسلام السياسي؟ نكاد لا نراهم في الدفاع عن الشهداء والمصابين خلال محاكمة المخلوع.. اختفت اغلبيتهم الساحقة من قاعات المحاكم في قضايا قتل الشهداء بمعظم محافظات الوطن.. بل إن نقابة المعلمين التي سيطر عليها الإخوان المسلمون، لم تنتفض أو تصدر ما يشبه البيان – لا أقول بياناً – احتجاجا علي أسئلة تتهم الثوار بالبلطجة.. تدعو إلي شكر المجلس العسكري.. وأفهم صمتهم تجاه سؤال حول توجيه التهنئة للتيارات الإسلامية علي نجاحها في البرلمان! سادسها: إن حزب الحرية والعدالة الذي صدعنا باعتراضه علي المادتين 9 و 10 من وثيقة «علي السلمي».. هو نفسه الحزب الذي يحاول إقناع الأمة بضرورة أن يكون هناك وضع خاص للقوات المسلحة في الدستور.. أي أنهم ضد الشيء عندما كانوا في احتياج لخداع الشعب، وهم ينادون به بعد أن أكل الشعب السنارة.. وكذلك يفعل السلفيون.. وإن كانوا قد صدعونا بانهم أصحاب حق في تشكيل الحكومة فور إتمام العملية الانتخابية لمجلس الشعب.. فقد ذهب حزب الحرية والعدالة متمثلا في رئيسي مجلسي الشعب والشوري القادمين – الكتاتني ومرسي – ليباركا حكومة الدكتور «كمال الجنزوري» ويتفقا معه علي أسلوب مواجهة الشعب في المرحلة المقبلة! تبقي الأسئلة قائمة ومفتوحة وكثيرة.. اسمحو لي أن أطرحها، دون بحث عن إجابة لها.. فالإجابة الوحيدة عندهم هي إعداد طبخة تقطع ألسنة الإعلاميين وتقصف أقلام الصحفيين.. وتردع كل من يحاول أن يفكر باحثاً عن الحرية والعدالة والنور.. والآن فهمتكم!