انحسر فكر التكفير عن ربوع مصر كلها تقريباً.. لكنه ما زال موجوداً إلي الآن بقوة في سيناء الشمالية.. فهي البقعة الوحيدة في مصر التي قام فيها أتباع فكر التكفير بعد الثورة باختطاف ضباط الشرطة.. ثم قاموا بعد عدة أشهر من الثورة باقتحام عدة أقسام للشرطة وقتلوا عدداً من ضباط الشرطة والجيش.. وأعلن بعضهم قيام إمارة إسلامية مستقلة في سيناء الشمالية حتي قامت قوات مدرعة من الجيش المصري بمواجهتهم والقبض علي بعضهم والسيطرة علي الوضع. وبالأمس أعلنت جماعة «أنصار الإسلام» مسئوليتها عن تفجير خط الغاز الممتد من سيناء إلي إسرائيل.. وبشرت بأن عدداً كبيراً من الموحدين انضم إلي الجماعة بعد الثورة.. وكلمة «الموحدين» بالذات تستخدمها جماعات التكفير لأنها تكفر معظم عوام المسلمين.. فلا يبقي موحد علي الأرض سواها، مختزلة أمة الإسلام العظيمة في مجموعات قليلة من جماعاتها. وقد كان الشيخ حمدي عبد الرحمن يمزح مع أحدهم ونحن في المعتقل فيعطيه ورقة صغيرة جداً ثم يقول له: «اكتب لي في هذه الورقة أسماء المسلمين في العالم من وجهة نظرك». وكان هذا التكفيري حاصل علي الابتدائية بصعوبة.. وكلما تحدثنا أمامه عن فضل عالم أو داعية سبه وأهانه.. وقال إنه من علماء السلطة وهو فاسق أو كافر. فكانت سخرية الشيخ حمدي عبد الرحمن منه بهذه الطريقة أبلغ رد عليه.. وكأنه يقول له: كيف تحتكر الإسلام والإيمان وحدك دون سواك؟ وقد التقيت في المعتقل المجموعات السيناوية التي قامت بتفجيرات طابا وذهب.. ووجدت أن الفكر الغالب عليهم هو فكر التكفير والتوقف.. وقد جعلني الله مع مجموعة من تلاميذي في معتقل دمنهور سبباً مباشراً لتركهم لهذا الفكر الذي يخالف هدي النبي (صلي الله عليه وسلم) «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما».. ويخالف فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم. وخطورة التكفير أنه بمثابة القتل المعنوي للمسلم. والتكفير كما قال لي كثير من مؤرخيه لا بد أن يستتبعه الاستحلال والقتل المادي.. فليس هناك تكفير بلا عنف. وقد سألت نفسي كثيراً حينما قابلت إخوة سيناء في المعتقل: لماذا ينتشر فكر التكفير الآن في سيناء دون غيرها من بقاع مصر؟ فجاءت الإجابة علي ألسنة بعض الإخوة السيناوية الذين تعاملت معهم وأكدها لي من تعامل معهم عن قرب، فقالوا: «التكفير فكر انعزالي.. والسيناوي بالذات في شمال سيناء يعيش في خيمة أو بيت منعزل عن الآخرين.. حتي إن كثيراً من السكان ليس لهم عنوان محدد مكتوب في سجلات الدولة. والتكفير فكر لا يعرف التعددية الدينية أو الفقهية أو السياسية.. وسيناء الشمالية بالذات ليس فيها أي تعدديات تشعرك بأن هناك «آخر» علي وجه الأرض. والتكفير فكر فيه جفاء وغلظة .. حيث تري نفسك أفضل من الجميع وتكفر الآخر.. والبيئة البدوية فيها جفاء وغلظة. فقلت له: صدقت فقد قال الرسول (صلي الله عليه وسلم) «من سكن البادية جفا».. أي جفا وغلظ طبعه. وسيناء الشمالية ليس بها تعليم جيد أو دعوة إلي الله بطريق صحيح.. أو علم شرعي أو حتي عالم كبير يلجأ الناس إليه. ثم إن المتفجرات في كل مكان.. ففي أي منطقة تحفر فيها ستجد صاروخاً من أيام الحروب السابقة.. ونحن نتقن إخراج المتفجرات من الصاروخ.. وهذه تكفي وحدها لصنع سيارتين ملغومتين. ثم إن ما يحدث في رفح الفلسطينية وغزة من قهر وظلم إسرائيلي لأهلنا وأقربائنا إلي جوارنا يشعرنا بالظلم والبغي.. ونريد الرد عليهم من خلال قتل السياح الأمريكيين الموالين لهم. والمتدين من شعب سيناء الشمالية يكون فقيراً جداً لأنه لا يستطيع أن يتاجر في المخدرات أو يشتري السيارات المسروقة أو يهرب البذور أو غيرها من إسرائيل.. فالملجأ أمامه الانعزال عن هذا الفكر الانعزالي وهو التكفير. وأنا أضيف إلي ذلك أن سيناء الشمالية حتي الآن لا تعرف أي معني للتعددية.. فليس فيها أي مظهر من مظاهر التعددية الفقهية.. أو التعددية السياسية.. فالأحزاب لا وجود لها تقريباً.. والعشيرة ورئيسها لهم الكلمة العليا.. وقد وجدت بعضهم يكفر بعض العادات القبلية الشائعة في سيناء. كما أن سيناء لا تعرف التعددية الدينية فمعظمهم مسلمون.. والتعددية هي العلاج الناجع لفكر التكفير الذي لا يعرف إلا رأياً واحداً.. وأي خلاف في الرأي هو كفر وإيمان.. وموالاة للمؤمنين ومعاداة للكافرين.. ومفاصلة بين حزب الله وحزب الشيطان.. وبين الحق والباطل. فهل ندرك سيناء قبل فوات الأوان؟