حين كنا في يناير إبان ثورتنا التي رسمت في الأفق أروع صور الانتماء لمصر الوطن.. توافقنا جميعاً علي إسقاط النظام الفاسد الذي كان قائماً وقد كان. حينها كانت أحلامنا تداعب نجوم السماء إذ كان هناك من يبشرنا بالخير والعدالة والاستقرار والأمن، ثم توالت الأحداث لتنكشف أمامنا كل العورات ولتفتضح جميع النوايا الخبيثة التي لم يكن لها هدف سوي إسقاط الثورة. ومع الزخم الثوري فلم يستوعب البعض الأمر علي حقيقته وإذا كان هناك من يتربص بالثورة فقد تمكنوا فعلاً من الإجهاز عليها. سقطت ثورتنا حين أتوا لنا بوزارة غير مكتملة الأهلية ومنحوها كذباً وزوراً شرعية الميدان. سقطت حين تقاسم المشهد السياسي العسكر وأصحاب اللحي والعمامة والنقاب وسماسرة الدين ممن يزعمون وكالتهم عن الله تعالي علي الأرض. وتوالي سقوطها علي أيدي هؤلاء المتأسلمين ممن لا يسلمون بوفاة أبي لهب وأبي جهل. سقطت حين أسقطوا الدولة في بلدة صول والماريناب وفي أسوان وبلطيم ودمياط وقنا وأمام ماسبيرو وفي كل نجع وقرية علي أيدي المجرمين والبلطجية. سقطت الدولة فعلاً حين سمحوا بإغلاق المحاكم وتعطيلها وحين تتابعت الاعتداءات علي أقسام الشرطة من مديريات الأمن. سقطت فعلاً وسوف يتأكد سقوطها بإجراء الانتخابات البرلمانية والتي ستؤدي حتماً إلي إقصاء جميع القوي الثورية عن المشهد السياسي لتفسح المجال لسيطرة قوي ظلامية هلامية احترفت الابتزاز والشعوذة السياسية لتنسحب بنا خارج النص. هي انتخابات معلومة النتائج مسبقاً ذلك أن الأمور لا تجري بعشوائية كما يوحي لنا البعض. فعندما تلتهب الحناجر وتتعالي الأصوات وتتنازع الرؤي والمناشدات لبيان خارطة طريق للمستقبل وتحديد جدول زمني لتسليم السلطة ويتبدد كل ذلك إلي هباء. وعندما يصير ما حدث في يناير من حيث المبدأ والمنتهي لا تتفق مقدماته مع نتائجه في نوفمبر، إذ صار الأمر إلي تعدد أوجه سقوط الدولة ومن قبلها الثورة، وكانت الكارثة في سقوط النخبة الاجتماعية والسياسية حتي صار الكل كاذباً والكل فاشلاً أنانياً انتهازياً، فهاهم أرباب القوي السياسية والنخب المختلفة يتنازعون نفايات السلطان متمثلة في محاولة اقتناص عدة مقاعد بالبرلمان ولا مانع إذا تجاوز هؤلاء عمن يحاولون استلاب الثورة، ولا مانع أن تسقط السلطة أيضاً في أيدي السماسرة والمنافقين والفاسدين الذين لا يتورعون عن الإتجار بجثث شهداء الثورة. وإذا كانت السلطة القائمة ومجريات الأحداث قد نجحت في أن تدفع بجميع الطوائف السياسية والاجتماعية والمهنية والدينية المختلفة إلي التعارك مع بعضها البعض، فقد بلغ بنا الاستخفاف مداه حين اعتبر البعض منا هذا الأمر من قبيل الإنجاز الثوري. في نوفمبر استدعوا أبيا لهب لإسقاط الدولة وليقود معركة الصدمة والرعب بكل هذه السادية في ميدان التحرير.. هم زعموا أنها أياد خفية تهدد استقرار البلاد ونحن رأيناه عياناً بياناً.. نعم رأينا أبي لهب في شارع محمد محمود وفي الميدان.. حين جاءونا بأبي لهب انكشف المستور فلا الأمن انهار ولا انكسر ولا تغيرت أدواته. كل شيء علي حاله، فها هو العنف المفرط غير المبرر وها هي السادية التي قال عنها الكواكبي في طبائع الاستبداد، وقد تمكنت من جميع الكوادر الأمنية علي اختلاف مستوياتها ولا يمكن لنا أن ننسي مشهد إلقاء جثث أحد المتظاهرين في وسط أكوام الزبالة أو موالاة ضرب أحدهم بالعصا علي رأسه لتأكيد الموت.. هي إرادة اصطناع الأزمات والمشاكل، إذن هي إرادة كسر الإرادة وإذلال الكرامة.. هي إرادة الإجهاز علي الثورة. هي إرادة إسقاط الدولة إذا لزم الأمر.. ويبدو أنه قد لزم. هم يتحدون بإجراء الانتخابات البرلمانية وكأن تأجيلها فيه مساس بالديمقراطية الكامنة والتي لم يكن من دون الانتخابات لها كاشفة. هي كاشفة ليس عن الديمقراطية تلك التي يحلو للبعض التغني بها ولكنها فاضحة.. أجل فعندما يتحول الشارع الانتخابي إلي سيرك فيه كل شيء قابل للبيع والشراء وتزييف الوعي باسم الله الذي منحهم من دون أغيارهم مفاتيح الجنة والنار. ها هم يزيفون وعي البسطاء من الناخبين تحت مظلة التبشير بالجنة التي يسوقونهم إليها عبر صناديق الانتخابات بعد أن أرسوا بداخلهم تلك القناعات الآثمة بحبل المعركة الانتخابية هي بين الدين واللا دين وبين الإيمان والكفر وبين المسجد والكنيسة. وأخطر ما ضمه الأمر أنهم سرقوا أجمل وأنقي ما في الثورة عبر صناديق الاقتراع. فقد سرقوا الإرادة وزيفوا الوعي وروعوا الناس فتدفقت عليهم الأموال من كل صوب فتباروا في شراء الذمم وها هي كوادرهم أخذت في شراء الأصوات الانتخابية من بسطاء الناس لحشدهم في معركة الكفر والإيمان وتتعدد الحكايات من البسطاء عن كيفية شراء البطاقات الخاصة بالسيدات الريفيات قبيل ليلة الانتخابات مقابل مبلغ مالي محدد عن كل بطاقة لتتسلمها إحدي المنتقبات وتدور علي اللجان الانتخابية لأداء التصويت بدلاً من صاحبة البطاقة الأصلية التي قبضت المقابل وضمنت دخول الجنة والأهم من ذلك أنها تفادت سداد الغرامة المقررة جزاء تخلفها عن التصويت والغريب أن الدولة بسلطتها الحاكمة القائمة تمكن لهؤلاء المتأسلمين عبر عملية منظمة بإثارة المزيد من الانفعال الجماعي الثوري الجامع وهذا الشحن الإعلامي التعبوي العشوائي الجانح نحو الفوضي والعنف.