كان للإسكندرية شرف أن تكون صاحبة العصر الذهبى فى ازدهار الدراسات الكلاسيكية فى العالم القديم. ومن ثم فقد كان لها الفضل الأكبر على هذه الدراسات وسيظل التاريخ يذكر لها هذا الفضل على التراث الكلاسيكى إلى الأبد. فهى المدينة التى وضعت لنا أنموذجاً رائعاً لكيفية استيعاب التراث وهضمه ثم حفظه وتسليمه للأجيال التالية والشعوب الأخرى. فمن الإسكندرية انتقلت الشعلة – فيما بعد – إلى روما ثم بيزنطة فالعرب الذين سلموها بدورهم إلى أوروبا الحديثة . يعد العصر السكندرى مرحلة استثنائية فذة حقاً . كان مسرحها مدينة الإسكندرية فى ساحل مصر الشمالى ، إبان القرون الثلاثة السابقة على ميلاد المسيح ، حيث صيغ نموذج واعد ، يجمع الجانبين : العلم والثقافة ، من حيث يجمع بين دعامتى المنهج العلمى : النظرية والتجربة . فقد انصهرت فيها العقلانية الإغريقية مع الحكمة والخبرة المصريتين. إنها المرحلة الهيلنستية، مرحلة تداخل الحضارة الهيلينية أى الإغريقية الخالصة السابقة ، مع حضارات الشرق . وذلك حين أسس الإسكندر الأكبر إمبراطوريته التى تضم العالم القديم بأسره تقريباً .وأنشأ عدة مدن تحمل اسم الإسكندرية على رأسها إسكندرية مصر . أنشئت فى العام 323ق.م فى موقع قرية مصرية قديمة تسمى « راقودة» .وبعد رحيل الإسكندر المفاجيء جرى تقسيم إمبراطوريته بين قواده ، وكانت مصر من نصيب بطليموس سوتير ، ليبدأ عصر البطالمة فيها . وقد بذل بطليموس الأول جهده ليجعل منها مركزاً للعلم ، أنشأ فيها أكاديمية ملحقاً بها متحف ومكتبة ، وسرعان ما باتت تضاهى مدارس الفلسفة فى أثينا ، وانضم إليها مجمع حكماء عين شمس حاملوا الميراث المصرى ، والذين فيما سبق كانوا قد علموا فيثاغورث وطاليس وأفلاطون حين ارتحل هؤلاء إلى مصر طلباً للعلم. أغدق بطليموس الثانى إغداقاً باذخاً على المكتبة الشهيرة فجعلها كعبة العلماء والباحثين آنذاك . وورثت الإسكندرية عرش أثينا كمركز للعقل والمعرفة والعلم ، وقدمت نموذجاً معرفياً تفوق على النموذج الهيلينى من حيث اكتمال جانبى المنهج العلمى فيه وفاقتها بما لا يُضاهى فى التكنولوجيا وصنع الآلات . وحسبنا أن نذكر اسم التكنولوجى الرائد هيرو السكندرى (50 ق.م ) اخترع العديد من الآلات وترك أبحاثاً فى الرياضيات وعلم المساحة والميكانيكا والبصريات والفيزياء الجوية . حتى الرياضيات مجد أثينا العظيم قطعت فى الإسكندرية خطى تقدمية واسعة ، وأحرزت على يد إقليدس كمالاً لا يزال مثالاً يحتذى للمنهج الاستنباطى المنتج فى الرياضيات . اكتملت نسقية الهندسة على يديه فى كتابه «الأصول» أو أصول الهندسة الذى يتصدر قائمة الكتب التى شهدت طباعة أكبر عدد من النسخ فى التاريخ .واستؤنفت المسيرة بهندسة المجسمات والقطوع المخروطية مع هيبسكليس وأبولونيوس وسواهما .وارتبط بهذا تقدم فى الجغرافيا والطب والفيزياء. وفى الفلك قدمت الإسكندرية نظريتين معالجتين رياضياً ، الأولى لأرسطارخوس الساموسى ( توفى قرابة 230 ق.م ) على أساس من مركزية الشمس، والأخرى لبطليموس على أساس من مركزية الأرض. ولأسباب كثيرة قدرت لمركزية الأرض البطلمية السيادة طوال العصور الوسطى. وضمت مكتبة الإسكندرية حوالى سبعمائة ألف لفافة بردية . ولتسهيل عمليات البحث العلمى والأدبى وضعت فهارس وتصنيفات للمؤلفين والنصوص مثل تلك الفهارس التى وضعها الشاعر الإغريقى كاليماخوس . كما شغلت علماء مكتبة الإسكندرية كثيراً مسألة تمييز الأعمال الأصلية من تلك غير الأصلية ، أى المنسوبة خطأ إلى هذا المؤلف أو ذاك . واستعملوا لفافات بردية ذات حجم خاص وثابت يسمح بعملية تقسيم النصوص الأدبية الكبيرة إلى مجموعة لفافات بدلاً من كتابتها فى لفافة واحدة طويلة يصعب تداولها والتعامل معها بصفة مستمرة . وبذل فقهاء الإسكندرية أقصى الجهد لكى يعيدوا بناء النصوص الأصلية ولا سيما نصوص هوميروس . وتبنوا منهجاً سليماً يقوم على أساس مقارنة مختلف المخطوطات ودراسة أسلوب المؤلف دراسة دقيقة مع التركيز على استخداماته اللغوية والاحتكام للمعايير الموضوعية. كما أصدر السكندريون تعليقات شارحة تدل على مدى علمهم وسعة درايتهم بالأساطير القديمة والأعمال الأدبية الكلاسيكية . وألفوا كتباً فى التاريخ الأدبى والنقد والعروض والنحو والنبرات كما ابتدعوا علم القواميس والموسوعات . وهكذا عمل فقهاء الإسكندرية بروح أرسطو المنهجية وساروا على دربه فأسسوا فروعاً جديدة للعلم والمعرفة ووضعوا أيديهم على الكنوز الأدبية مثل مخطوطات الشعراء القدماء ولاسيما هوميروس والتراجيديا الأتيكية . كما ترجموا العهد القديم أو التوراة إلى الإغريقية فيما عرف باسم «الترجمة السبعينية»، ووضعوا القواعد العلمية لمختلف فروع المعرفة. المرحلة السكندرية أعقبتها الفلسفة الرومانية التى امتدت حتى القرن الخامس الميلادى الذى يعد نهاية عصر الفلسفة القديمة . ما بعده يعرف بالمرحلة الوسيطة أو العصور الوسطى، حيث إنها تتوسط نهضتين هما مرحلتان مشرقتان فى الحضارة الغربية الأوروبية، الأولى مع الإغريق والثانية هى عصر النهضة والعصر الحديث. أما العصور الوسطى الأوروبية ذاتها، فكانت مرحلة مظلمة، يواكبها مرحلة العصر الذهبى للحضارة الإسلامية. وفى أقل من مائة عام طوقت الفتوحات الإسلامية شواطيء البحرالمتوسط من أقصى شماله الشرقى إلى أقصى جنوبه الغربى ومضيق جبل طارق، وكاد يتحول إلى بحيرة عربية تجوبها الألوية والصوارى الإسلامية . ولما كان ثبج البحر آنذاك هو وسيلة الاتصال بين أرجاء المعمورة، فقد اختنقت أوروبا ودخلت فى ليل العصور الوسطى التى كانت شمسها غاربة عن الغرب ومشرقة فى الشرق، فكانت الحضارة الإسلامية هى التى حملت آنذاك لواء التجريب والمنهج العلمى فى تلك الحقبة من تاريخ البشر. على الإجمال، يعد مؤرخو العلم المرحلة السكندرية من أهم مراحل تاريخ العلم القديم، حتى يراها بعضهم تقف على قدم المساواة مع مرحلة الثورة العلمية الحديثة فى القرن السادس عشر. وطبقاً لما يورده بلوتارخوس فإن مكتبة الإسكندرية قد أحرقت عندما دكت القوات الرومانيةالمدينة لإنقاذ يوليوس قيصر المحاصر داخلها عام (48 ق.م)، ولكن كاسيوس ديو يقول: «إن مخازن الغلال والكتب فقط هى التى أحرقت آنذاك» وجاءت المبالغات الأسطورية التى نشأت بعد ذلك فصورت أن المكتبة قد دمرت عن آخرها. ولكن كما تؤكد الأبحاث العلمية الدقيقة فإن هذا الحريق الذى وقع إبان الحرب السكندرية لم يطل سوى مخزناً للفافات البردى على رصيف الميناء، تم تعويضه فيما بعد بعد تقديم مائتى ألف لفافة من مكتبة برجامون هدية من أنطونيوس لكليوباترا . وقد تعرضت المكتبة لعدة حرائق بسبب النزاع الطائفى داخل المدينة ولاسيما بين المسيحيين والوثنيين . لقد كان الإمبراطور أوريليانوس هو الذى وجه ضربة مدمرة للغاية لمكتبة الإسكندرية عندما هاجم المدينة عام 273م فى أثناء حربه ضد الملكة زنوبيا، عقب إعلان المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية فى القرن الرابع الميلادى أصبح وجود المكتبة الوثنية غير مرغوب فيه. وظلت المكتبة أثراً باقياً على التقاء ثلاث حضارات هى المصرية واليونانية والرومانية إلى أن بدأ التفكير فى بعثها وإحيائها جامعة الإسكندرية وتحمس الرئيس الأسبق حسنى مبارك للمشروع وأصدر قراراُ جمهورياً عام 1988 بإنشاء الهيئة المنفذة للمكتبة تحت إشراف وزارة التعليم العالى، كما شكلت لجنة فخرية دولية ترأستها سوزان مبارك لتوفير الدعم الفكرى والمادى والمعنوى للمشروع الذى يهدف فى فلسفته إلى إنشاء مكتبة بحثية علمية فريدة ذات طابع عالمى بغرض تنمية البحث العلمى وبناء مصدر ثرى للمعلومات وتوسيع آفاق التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لمصر ومنطقة البحر المتوسط ومد جسور الثقافة بين مصر وبقية العالم. وبعد أكثر من عشر سنوات من العمل تحقق الحلم وظهرت إلى الوجود المكتبة بمنطقة الشاطبى عند لسان السلسلة بمدينة الإسكندرية على شاطيء البحر المتوسط فى الحى الملكى القديم المنتمى للحضارات المصرية واليونانية والرومانية ، وقد صممت المكتبة على شكل قرص كمبيوتر دائرى قطره 1600 متر ويخترق هذا القرص عمق الأرض لمساحة 16 متراً ويبرز فوق سطح الأرض 37 متراً ويرمز الجزء الغاطس إلى الماضى بينما يرمز الظاهر إلى المستقبل وتوجد قاعة واحدة للقراءة مساحتها عشرون ألف متر مربعاً تستوعب 2000 قاريء فى وقت واحد وتضم المكتبة مركز معلومات للتكنولوجيا والمعلومات وقاعات للمحاضرات ومعامل للغات ومكتبة سمعية وبصرية وتضم القاعة الرئيسية وحدات للقراءات الخاصة ومكتبة للأطفال ومتحفاً للعلوم والآثار التى وجدت فى المنطقة من العصر اليونانى والرومانى وتتصل المكتبة بقبة سماوية تعرض الأفلام المجسمة سواء كانت علمية أو تعليمية أو ترفيهية. ولقيمة المكتبة صدر القانون رقم (1) لسنة 2001 الذى نصت المادة الأولى منه على أن مكتبة الإسكندرية شخص اعتبارى عام مقره مدينة الإسكندرية يتبع رئيس الجمهورية وهى مركز إشعاع حضارى مصرى ومنارة للفكر والثقافة والعلوم وتضم ما أنتجه العقل البشرى فى الحضارات القديمة والحديثة بجميع اللغات. كما يتولى إدارتها مجلس للرعاة يتكون من عدد من كبار الشخصيات الدولية يتم اختيارهم بدعوة من رئيس الجمهورية على أن يكون من بينهم رئيس منظمة اليونسكو ولا يقل عدد أعضاء مجلس الرعاة عن ثمانية ولا يزيد على أربعة وعشرين، ويتولى رئيس الجمهورية رئاسة المجلس أو من ينوب عنه.ويختص المجلس بدعم ومتابعة نشاط المكتبة وإسداء ما يراه من توجيه ويعقد اجتماعاً كل ثلاث سنوات.وهناك مجلس الأمناء الذى يتكون من عدد من الشخصيات العامة والخبرة الدولية من المصريين وغير المصريين بحيث لا يقل عددهم عن خمسة عشرة ولا يزيد على ثلاثين عضواً ، ويضع مجلس الأمناء السياسة العامة للمكتبة. كما يوجد مدير مكتبة الإسكندرية الذى يعينه مجلس الأمناء لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد، ويناط به تنفيذ السياسة التى يضعها مجلس الأمناء.