كتب بهيج إسماعيل وسط الأحداث العاصفة التي تمر بها مصر في مخاض الثورة تضيع أحداث صغيرة لكن لها دلالات كبيرة.. ففي الشهر الماضي سقطت سهير (الممرضة) علي سلالم عمارة شركة التأمين الأهلية بشارع عبدالخالق ثروت.. سقطت سهير ميتة.. هذا هو الخبر الذي لم ينشر حتي في الصحف.. ولكن وراء الخبر قضية كبري تحتاج إلي ثورة أخري كتلك التي حدثت في يناير. العمارة المذكورة بها ثلاث هيئات تحتل الأدوار العليا.. الدور السابع والثامن هي هيئة المسرح وهيئة الفنون الشعبية وهيئة الأوبرا.. والمصعد معطل منذ أكثر من عام.. والموظفون ورؤساء الهيئات يصعدون السلالم علي أقدامهم مستسلمين تمامًا كأنما ذلك أمر عادي.. يصعدون حتي الدور التاسع. وعمل (سهير) قتيلة السلالم في الدور الثامن وهي مريضة بالقلب لكن لقمة العيش المغموسة بالذل تضطرها للصعود لمكان عملها فلا وسيلة أخري لإثبات حضورها. عام ونصف عام مضوا والمصعد معطل والموظفون يصعدون مستسلمين لأعمالهم.. لا شك أنهم تذمروا في البداية ثم استسلموا بعد ذلك كما يحدث في مصر منذ ثلاثين عامًا.. يبتلع الناس شكاواهم ويسلمون أمرهم لله لتنتهي بهم المسألة إلي «حسبنا الله ونعم الوكيل» عن المسئول. حين اشتكوا لشركة التأمين صاحبة العمارة التي بها المصعد قالت إن المسئولية تقع علي المستأجرين والذين هم هيئات المسرح والفنون الشعبية والأوبرا وغيرهم وأنه لابد من مقايسة يشترك فيها جميع العاملين بالمساهمة وحين عرض الأمر علي مراقب حسابات البيت الفني للمسرح - الذي يشغل الدور الثامن - رفض دفع مبلغ إصلاح المصعد علي أساس أنه لن يتحمله وحده.. وهكذا فعل الباقون.. وهكذا ضاعت المسئولية بين الشركة المالكة للعمارة.. وبين المسئولين في الهيئات التي تشغلها.. وهكذا ضاع العاملون بين تعنت هذا وذاك. سهير مريضة بالقلب.. ومتزوجة.. ومسئولة عن أسرة.. ولابد لها من الذهاب للعمل. ولابد لها من صعود السلالم.. وصعدت سهير ولم يتحمل قلبها وسقطت علي السلالم وماتت.. فمن يا تري المسئول؟ وهل تم بعد - تلك الضحية - إصلاح المصعد؟ الواقع يقول لا.. والروتين يقول لا.. والناس مستسلمون. إن مفهوم الثورة.. هو تغيير الواقع فورًا.. وتغيير نظام الواقع.. وتغيير روتين الواقع وجعل المواطن هو الأصل وهو الأساس وهو الهدف.. وحياة المواطن وراحته هي المعني الكبير للثورة.. وإلا فما معني الثورة؟ وثورة علي من؟ ومن أجل من؟ لقد نادي الثوار في ميادين مصر بتغيير النظام.. والنظام هو بالتحديد الروتين.. الكلمة التي نستخدمها كثيرًا ولا نحدد معناها بدقة.. فهل تغير الروتين في مصر؟ هل تغيرت القوانين التي تأكل أعمار الناس وتقتلهم قبل الأوان؟ إن القانون الذي لا يعمل من أجل راحة المواطن.. هو قانون عقيم لا حياة له مهما بدا لنا جميلا.. وإن كثرة القوانين في مصر وتشعبها بين الوزارات والهيئات يجعل المسئولية تضيع بينها حتي أنك لا تعرف من المخطئ ومن المصيب. ومن المجرم ومن البريء.. لهذا لا يمكنك تحديد من الذي قتل سهير؟ شركة التأمين الأهلية صاحبة المصعد المعطل تقول إنها غير مسئولة والهيئات القاطنة في المبني تقول إنها غير مسئولة.. لكن الحقيقة - وبعيدًا عن الروتين وعن بنود القانون المطاطية - فإن المسئولية تقع علي الجميع كل بمدي إهماله ومدي مساهمته في ترك الخطأ والنظر إليه من بعيد كأنه لا يعنيه. إن الثورة الحقيقية لم تتحقق بعد.. وإن مفهوم الثورة وتغيير النظام لم يتحقق بعد.. فليست المسألة هي محاكمة رؤوس النظام الفاسد فقط وإنما أيضًا محاكمة القوانين الفاسدة التي تقتل الناس في مصر دون عقاب.