المنهج الإلهي - في إصلاح البشرية وهدايتها إلي طريق الحق - يعتمد علي وجود القدوة التي تحول تعاليم ومبادئ الشريعة إلي سلوك عملي، فكان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - هو القدوة التي تترجم المنهج الإسلامي إلي حقيقة وواقع، قال تعالي: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب:21)، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه - صلي الله عليه وسلم - قالت: «كان خلقه القرآن»، وقال صلي الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، لهذا كانت لنا هذه الوقفة مع الأنبياء والصحابة والرعيل الأول من النساء المسلمات لنتعلم منهم وعنهم. إنه الصحابى الكريم عبد الرحمن بن عوف -رضى الله عنه- ولد قبل عام الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل أن يدخل الرسول دار الأرقم بن أبى الأرقم، وكان أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبى بكر الصديق، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين اختارهم عمر ليخلفوه فى إمارة المؤمنين، وكان أغنى أغنياء الصحابة. أغمى عليه ذات يوم ثم أفاق، فقال لمن حوله: أَغُشى عليَّ؟ قالوا: نعم، قال: فإنه أتانى ملكان أو رجلان فيهما فظاظة وغلظة، فانطلقا بي، ثم أتانى رجلان أو ملكان هما أرق منهما، وأرحم فقالا: أين تريدان به؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين. فقال: خليا عنه، فإنه ممن كتبت له السعادة وهو فى بطن أمه. [الحاكم]. هاجر إلى الحبشة مرتين، وآخى رسول الله بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد: أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر (نصف) مالى فخذه، ولى امرأتان، فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك فى أهلك ومالك، دلونى على السوق. فدلوه على السوق، فاشترى، وباع، فربح كثيرًا. وكان -رضى الله عنه- فارسًا شجاعًا، ومجاهدًا قويًّا، شهد بدرًا وأحدًا والغزوات كلها مع رسول الله، وقاتل يوم أحد حتى جرح واحداً وعشرون جرحا، وأصيبت رجله فكان يعرج عليها. بعثه رسول الله إلى دومة الجندل، وعممه بيده الشريفة وسدلها بين كتفيه، وقال له: «إذا فتح الله عليك فتزوج ابنة شريفهم». فقدم عبدالرحمن دومة الجندل فدعاهم إلى الإسلام فرفضوا ثلاثًا، ثم أسلم الأصبع بن ثعلبة الكلبي، وكان شريفهم فتزوج عبد الرحمن ابنته تماضر بنت الأصبع، فولدت له أبا سلمة ابن عبد الرحمن. [ابن هشام] وكان رسول الله ( يدعو له، ويقول: «اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة» [أحمد]. وكان -رضى الله عنه- تاجرًا ناجحًا، كثير المال، وكان عامة ماله من التجارة، وعرف بكثرة الانفاق فى سبيل الله، أعتق فى يوم واحد ثلاثين عبدًا، وتصدق بنصف ماله على عهد الرسول». وأوصى بخمسين ألف دينار فى سبيل الله، وأوصى لمن بقى من أهل بدر لكل رجل أربعمائة دينار، وكانوا مائة فأخذوها، وأوصى بألف فرس فى سبيل الله. وكان (يخاف على عبد الرحمن بن عوف من كثرة ماله، وكان يقول له: «يا ابن عوف، إنك من الأغنياء، ولن تدخل الجنة إلا زحفًا، فأقرض الله يطلق لك قدميك»، فقال عبد الرحمن: فما أقرض يا رسول الله؟ فأرسل إليه رسول الله فقال: «أتانى جبريل، فقال لي: مره فليضف الضيف، وليعط فى النائبة والمصيبة، وليطعم المسكين» [الحاكم]، فكان عبد الرحمن يفعل ذلك. وبرغم ما كان فيه ابن عوف -رضى الله عنه- من الثراء والنعم، فقد كان شديد الإيمان، محبا للخير، غير مقبل على الدنيا. وذات يوم أتى بطعام ليفطر، وكان صائمًا فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن فى بردته، إن غطى رأسه بدت (ظهرت) رجلاه، وإن غطى رجلاه بدا رأسه، ثم قال: وقتل حمزة، وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا منها ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكى حتى ترك الطعام. وذات يوم، أحضر عبد الرحمن لبعض إخوانه طعامًا من خبز ولحم، ولما وضعت القصعة بكى عبد الرحمن، فقالوا له: ما يبكيك يا أبا محمد؟ فقال: مات رسول الله ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لما هو خير لنا. ولما تولى عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- الخلافة سنة (13 ه)، بعث عبدالرحمن بن عوف على الحج، فحج بالناس، ولما طعن عمر -رضى الله عنه، اختار ستة من الصحابة ليختاروا من بينهم الخليفة، وكان عبد الرحمن بن عوف أحد هؤلاء الستة وكان ذا رأى صائب، ومشورة عاقلة راشدة، فلما اجتمع الستة قال لهم: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة نفر فتنازل كل من الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبى وقاص فبقى أمر الخلافة بين عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب فقال عبد الرحمن: أيكم يتبرأ من الأمر ويجعل الأمر إلي، ولكن الله على أن لا آلو (أقصر) عن أفضلكم وأخيركم للمسلمين. فقالوا: نعم. ثم اختار عبد الرحمن عثمان بن عفان للخلافة وبايعه فبايعه على وسائر المسلمين. وتوفى عبد الرحمن -رضى الله عنه- سنة (31ه)، وقيل (32ه) فى خلافة عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع.