معظم ثورات العرب في القرن العشرين قادها ضباط القوات المسلحة سعيا لتخليص بلادهم من الاحتلال الأجنبي. وحتي بعد أن اكتملت السيادة للجمهوريات والممالك العربية فقد عملت جميعها علي اتباع نفس أساليب الحكم. الجدير بالملاحظة أن قادة معظم الدول العربية تعتمد علي نفس الأساليب في المحافظة علي مواقعها وفي مواجهة أية مظاهرات أو ثورات مرتقبة. كما تلاحظ أن الرؤساء العرب لا يتركون مناصبهم طواعية وهذا يفسر سر عدم وجود رئيس سابق في هذه البلدان. يكفي أن أحدهم وهو الرئيس معمر القذافي (42 عاما) يعتبر أقدم رئيس دولة في العالم يليه الرئيس مبارك (ثلاثين عاما) الذي يعتبر ثاني أقدم حاكم في تاريخ مصر بعد محمد علي (43 عاما) ثم الرئيس بن علي الذي حكم تونس لمدة 23 عاما. لعل كل واحد من هؤلاء الرؤساء مر ويمر بنفس المراحل النفسية التي ترتبط بطول البقاء في السلطة. لقد شهدت ثلاث دول عربية ثورات شعبية عارمة في القرن الحادي والعشرين. من المعروف أن تونس أول دولة عربية تشهد مظاهرات في 17 ديسمبر الماضي تحولت إلي ثورة شعبية أدت إلي إنهاء حكم بن علي في 14 يناير 2011م. ثم بدأت المظاهرات في مصر يوم 25 يناير ولم تتوقف إلا بعد أن تنحي الرئيس مبارك في 11 فبراير 2011م ثم بدأت مظاهرات مناهضة للنظام الليبي في بنغازي ومصراتا والبيضاء في شرق ليبيا في 17 فبراير أي بعد عدة أيام من تنحي الرئيس محمد حسني مبارك. من الملاحظ أن السلطات في الدول الثلاث تعاملت بنفس الأسلوب مع المظاهرات: محاولات قمع المظاهرات من خلال إطلاق القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والحي مما أسفر عن سقوط قتلي وجرحي ومن الواضح أن العنف أدي إلي تصميم المتظاهرين علي المضي في تحقيق أهدافهم ورفع سقفها إلي حد المطالبة بإسقاط الأنظمة. تزامن ذلك مع استخدام أجهزة إعلام الدولة لتشويه الثورة والتقليل من قيمتها وإذاعة أخبار كاذبة بهدف تضليل الرأي العام والعمل علي منع وسائل الإعلام الأخري من تصوير المجازر التي حدثت في ميدان التحرير أو بنغازي. الغريب أن المسئولين عن هذه الأجهزة الإعلامية نسيت أو تناست وجود قنوات فضائية عديدة تسلط الأضواء علي الأحداث الجارية وكانت هذه الإجراءات كافية لنزع ثقة المواطنين من هذه الأجهزة. تقديم تنازلات لإرضاء المتظاهرين كتغيير الحكومة وإقصاء وزير الداخلية والوعد بعدم الترشح لانتخابات الرئاسية القادمة والرغبة في إنهاء المدة المتبقية. فرض حظر التجوال في شوارع تونس ومصر وإنزال قوات الجيش للحد من المظاهرات. تنظيم مظاهرات مؤيدة للنظام القائم وخروج مؤيدي الرئيس حاملين لافتات التأييد للرئيس وفي الغالب الأعم فإن هؤلاء المؤيدين مدفوعون من قبل المستفيدين من بقاء الأحوال علي علتها من دون تغيير هذا بخلاف قطع النت والاتصالات. محاولة دفع الجيش إلي استخدام القوة تجاه الجماهير إلا أن الجيش التونسي والمصري رفضا الانصياع لأوامر الحاكم العسكري. الاعتماد علي نظرية المؤامرة لتفسير الأحداث، فالقوي الخارجية والأجانب هم الذين أطلقوا النار علي المتظاهرين وهم الذين سعوا لقلب نظام الحكم في مصر وتونس. كما أن سيف الإسلام القذافي سارع بتوجيه الاتهام لعناصر مختلفة، فتارة يتهم المصريين والتوانسة وتارة يتهم الإسلاميين وتارة يشير إلي القاعدة وبن لادن وواضح أن الأنظمة الثلاثة فعلت كل شيء للتشبث بالسلطة حتي آخر قطرة في دم الشعب. اعتمدت الأنظمة علي إحداث قلاقل في الوطن من خلال إزكاء الفتنة بين عناصرها سواء طوائف دينية أو قبائل وعشائر (راجع خطاب سيف الإسلام للشعب الليبي). إن كل الأنظمة تعتقد أنها صمام الأمان ومن دونها سوف تنتشر الفوضي والحرب الأهلية في مصر وتونس وليبيا. ومن الواضح أن الفترة الطويلة التي بقيها الزعماء الثلاثة في السلطة تفسر لنا سر التشبث المستميت بمواقعهم مما أدي إلي إطالة أمد الأزمة ولعل أكثرهم تشبثا هو القذافي الذي أسال الكثير من الدماء واستخدم الطائرات لقتل المتظاهرين مما ساهم في سقوط حوالي ألفي قتيل والآلاف من الجرحي. وهذا التشبث المقيت يرجع إلي الحالة النفسية التي مر بها الزعماء الثلاثة وهي مراحل نفسية أشار إليها علماء النفس ومنهم كوبلر - روس في كتابه "حول الموت" والذي نشره في 1969م: المرحلة الأولي: الصدمة، وهي أن الرئيس يصاب بصدمة نتيجة الثورة المباغتة وهذا يفسر تأخر ردة الفعل تليها مرحلة الإنكار، فهو لا يصدق أن تقوم الجماهير بالهتاف ضده، فالجماهير التي تهتف للرئيس منذ عشرات السنين لا يمكن أن تفعل عكس ذلك ثم تبدأ مرحلة الغضب وهذه المرحلة تبدأ بعد أن يدرك الرئيس حقيقة الأوضاع علي الأرض، وهي مشاعر إنسانية يمر بها الرئيس ويوجهها تجاه من خدعوه من المعاونين وتجاه الشعب الذي لا يقدر تضحياته. المرحلة التالية هي التفاوض كمحاولة بن علي إقناع الشعب بالبقاء حتي 2014م ومحاولة مبارك استكمال مدته حتي سبتمبر 2011م. أما المرحلة الأخيرة من هذه الدائرة فهي القبول بالأمر الواقع والرضوخ لرغبة الشعب وهي المرحلة التي انتهي إليها الرئيسان بن علي ومبارك بينما يرفض قبولها الرئيس القذافي. * أستاذ جامعى