هو الإمام الشيخ أحمد بن عبدالمنعم بن يوسف بن صيام الدمنهورى الأزهري، وُلد فى سنة 1001ه - 1589م ببلدة دمنهور الغربيَّة، وهى بلدة تقعُ غرب الدلتا، وهى الآن عاصمة محافظة البحيرة؛ وهى إحدى المدن المصريَّة الكبيرة ذات التاريخ الواسع والحضارة العريقة، ذكَر صاحب الخطط التوفيقيَّة أنَّ أهل الشيخ «الدمنهوري» اهتمُّوا به؛ لما وجدوا فيه من النُّبوغ المبكِّر وسرعة الحِفظ، فقد حفظ القُرآن الكريم قبل العاشرة، ثم التزم بالشُّروط التى يشترطُها الأزهر فى الانتساب إليه؛ من حِفظ القرآن الكريم كلِّه، وقدرٍ من العلوم؛ مثل الخط والحساب والإملاء، وإنَّ الصبى كان يتيمًا ولا كفيل له، وهذا لا يمكنه العيش بعيدًا عن بلده إلا فى حالة واحدة؛ وهى الالتحاق بالأزهر؛ لأنَّه هو وحدَه الذى يكفل لمن ينتسبُ إليه بالدراسة وطلب العلم، وتوفير شتَّى مطالب الحياة التى يتشوَّق إليها «الدمنهورى وأمثاله»، وذهب للأزهر الذى هو بغية كلِّ طالب علمٍ، وإذا عرفنا أنَّه قد أقام فى بلدته عشر سنوات، وتقلَّد المشيخة عشر سنوات أُخَرَ ولقى ربَّه وهو فى الحادية والتسعين تقريبًا، فإنَّه يكون قد قضى فى طلب العلم إحدى وسبعين سنةً غالبًا، وهذا يُفسِّر لنا أكثر العلوم التى ذاكرها واستوعبها وحصَّلها، ووفرة المصنَّفات التى ألَّفها، وهذا القدر الكبير من الشيوخ الذين استمع إليهم أو تلقَّى عنهم. وقد تولَّى مشيخة الأزهر بعد وفاة الإمام التاسع للأزهر الشيخ «السجيني» 1182ه، اعتلى أريكةَ الإمامة خليفته وعماد الشافعيَّة من بعده الإمام الشيخ «أحمد الدمنهوري» 1182ه - 1768م، وقد أفاض المؤرِّخون فى الحديث عنه وتتبُّع أعماله وآثاره، وما ذلك إلا لعلمه الواسع وفضله الشامل ومَزاياه التى قليلاً ما تجتمعُ فى غيره.
آثاره العلمية وتأثيره ومكانته
اشتغل الرجل بالعلم وجدَّ فى تحصيله، واجتهد فى تكميله، وأجازَهُ علماء المذاهب الأربعة، وسمحوا له بتدريس الفقه على المذاهب الأربعة؛ ولهذا سُمِّى ب»المذاهبي»؛ أي: العالم بالمذاهب الفقهيَّة الأربعة المعروفة، مع أنَّ علماء عصره كان كلُّ واحدٍ منهم يلتزمُ مذهبًا واحدًا، محاولاً إتقانه.
وكانت له حافظة وذاكرة عجيبة، ومعرفة فى فُنون غريبة، كما أنَّه أفتى على المذاهب الأربعة.
كان الإمام «الدمنهوري» فَذًّا بين علماء عصره بثقافته الواسعة الشاملة لألوان المعارف، فقد كانت ثقافته الدينيَّة واللغويَّة عميقةً، كما كان دارسًا مُتضلِّعًا فى العلوم الرياضيَّة والهندسيَّة والفلكيَّة والطبيَّة والفلسفيَّة، وهذا أمر عجيب فى عصره الذى كان ينفرُ من العلوم غير الدينيَّة، والمعروف أنَّ الإسلام يدعو للتأمُّل فى ملكوت السماوات والأرض، ويهيب بالمسلمين جميعًا أنْ يدرسوا جميعَ آيات الله الكونيَّة فى مجالات العلوم والفنون والفلسفة والآداب؛ ولهذا كان الإمام « الدمنهوري» سابقًا لأوانه أو متأخرًا عنه، فقد عرف الإسلام فى أزهى عُصوره الفقيه الطبيب، والفقيه الفلكي، والفقيه الفيلسوف، والفقيه الرياضي، وفى العصر الحديث أنشأ الأزهر كليات الطب والهندسة والزراعة والإدارة والمعاملات والصيدلة واللغات... إلخ.
ولقد تحدَّث الإمام «الدمنهوري» عن نفسه فى مذكراته وعن طريق دراسته، فيقول فى سنده: «أخذتُ عن أستاذنا الشيخ على الزعتري، خاتمة العارفين بعلم الحساب واستخراج المجهولات، وما توقَّف عليها؛ كالفرائض والميقات، وقد أخذت عنه «وسيلة ابن الهائم» و«معونته» فى الحساب، و«المقنع»؛ لابن الهائم أيضًا، و«منظومة الياسمين فى الجبر والمقابلة والمنحرفات»؛ للسبط المارديني، فى وضع «المزاول» - قياس الظل - ودرس كتاب «الموجز فى اللمحة العفيفة فى أسباب الأمراض وعلاتها»، وبعضًا من «قانون ابن سينا»... إلخ، فقد درس وقرأ كثيرًا من كتب الطب، والمقام لا يتسعُ لذكر كلِّ دراساته، فإنها كثيرة جدًّا.
وقد أورد الجبرتى أسماء شيوخه والكتب التى درسها عليهم وأجازوه بها، وهى تشملُ علوم الفقه والعلوم الدينيَّة واللغويَّة والتصوُّف وعلوم اللغة، وتناول «الجبرتي» بالتفصيل فى مذكراته ألوان العلوم والفنون فى ذلك العصر، وقد درسها الإمام الدمنهوري، وتفنَّن فيها وترك مصنَّفات عديدة فى دراسة هذه العلوم، وكانت بينه وبين الجبرتى مناقشةٌ فى دراسة العلوم والفنون العلميَّة، والتأليف فيها.
مكانته
قال عنه المؤرِّخون فى أكثر من موضع عن مكانته - وقد تولى مشيخة الأزهر بعد وفاة الشيخ الإمام «السجيني» وهابَهُ الأمراء؛ لكونه قوالاً للحق، وأمَّارًا بالمعروف، سمحًا بما عنده فى الدنيا، وقصده الملوك من كلِّ حدب، وولاة مصر من طرف الدولة كانوا يحترمونه، وكان شهيرَ الصوت، عظيمَ الهيبة، عزوفًا عن المظاهر الصاخبة التى تلهى عن تحصيل العلم وابتغاء المعرفة، من أجل هذا فإنَّه كان لا يحضر الكثير من المجالس والجمعيَّات التى كانت تنعقدُ فى مناسباتٍ مختلفة فى الأفراح والاستقبالات... إلخ.
والناس لم يعتادوا عليه إلا أنْ يروه قارئًا فى كتابٍ، أو ملقيًا درسًا، أو معدًّا لمؤلَّف يكتبه. أورد الجبرتى أسماء شيوخه وأسماء الكتب التى درسها عليهم وأجازوه بها، وقد ذكرنا بعضًا منها آنفًا، وهى تشمل علوم الفقه، والعلوم الدينية: من توحيد وتفسير وحديث، ومواريث وتصوُّف، وعلوم لغة: من نحو وصرف وبلاغة وأدب، وعلوم الرياضة والهندسة... إلخ.
وتناول الجبرتى بالتفصيل فى مذكراته ألوان العلوم، والفنون المعروفة فى هذا العصر، وقد درسها الإمام «الدمنهوري» وتفنَّن فيها، وترك مصنَّفات عديدة فى دراسة الفنون العلميَّة، والتأليف فيها، وسترى فى مؤلَّفاته الكثير من الكتب دليلاً على سعة علمه، ودليلاً على هذه الثقافة الواسعة الفاهمة بالنسبة لعصره.
ولو تتبَّعنا سيرة الرجل وفهمنا ما يدورُ فيها من أنه كان عَزُوفًا عن المظاهر الصاخبة التى تُلهِى وتشغل عن تحصيل العلم، وأنَّه كان عزوفًا لا يحضر كثيرًا من المجالس والاجتماعات والجمعيَّات، وهذا قلَّل من كثرة محادثاته فى عامَّة الناس، والواقع المعروف أنَّ الرجل الإمام «الدمنهوري» كان ينشُر علمه ويتحدَّث به مع مَن يستحقُّ ذلك؛ والدليل خطبه ومحاضراته فى المسجد الحسيني، وإلا لما عرفناه، ولما وصَل لنا علمه على صفحات التاريخ والذى نخبرُ عنه الآن.
والدليل الثانى شيوخه الذين زاد عددهم عن خمسة وأربعين شيخًا من أكابر العلماء، ذكر هذا فى «عجائب الآثار»، وممَّا سبق يمكننا أنْ نعرف السبب فى اعتداد شيخنا بنفسه، وسعة علمه، وكثرة مَعارفه، وشهرة شيوخه، وتنوُّع ثقافاته، حتى يخيل لمن يدرسُ سيرته أنه دائرة معارف تمشى على قدمين، وقد وجَّه علماء عصره الأسئلة الخمسة المشهورة.
مؤلفاته ومصنفاته
من خلال سيرة الإمام «الدمنهوري» تعرَّفنا أنَّه غزير العلم متنوِّع الثقافات، وقبل الكلام عن مؤلفاته نشيرُ إلى الأسئلة الخمسة التى تحدَّى بها العلماء فى عصره، والتى أعطاها له على بك الكبير، وقال له: « أعطها للعلماء الذين يتردَّدون عليك ليجيبونى عنها، إن كانوا يزعُمون أنهم علماء»، قال الجبرتي: «إنَّ هذه وإن كانت من عويصات المسائل... إلخ، ثم ذكر أنَّ الشيخ «الدمنهوري» أجاب عليها،
وفاته
رُوِى عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ما معناه: «اتَّقوا فراسةَ المؤمن؛ فإنها ترى بنور الله»، حدث قبل وفاة الإمام «الدمنهوري» بقليل، وكانت العلاقة بين الجبرتى والإمام الدمنهورى على أشُدِّها؛ فقد التقيا ذاتَ يومٍ، وتعرَّف كلٌّ منهما على صاحبه، وعندها بكى الإمام «الدمنهوري» وعصر عينيه، وصار يضرب بكفيه ويقول: «ذهب إخواننا ورفقاؤنا، وجعل يقول: يا ابن أخي، ادعُ لي، وبعدها انقطع بالمنزل قبل وفاته، وقد أعطى للجبرتى الإجازة أنْ يذكر عنه كل مرويَّاته، وأعطاه برنامج شيوخه، وما نقله قبل ذلك، وداهَمَ الشيخ المرض، وانقطع فى بيته لا يخرج للناس إحساسًا بدنوِّ أجله.
وفى يومٍ غابت شمسه عن الأعيُن، لبَّى هذا العالم الجليل نداءَ ربه، فى اليوم العاشر من شهر رجب سنة 1192ه - 1778م بعد سنوات كفاح ونضال من أجل الإسلام والأزهر، وفى طلب العلم ونشره، واستمرَّت تسعين عامًا وتزيدُ، انتقل إلى جوار ربِّه سبحانه صاحبِ الملك والملكوت، وحملَه الناس على أكتافهم من مسكنه وبيته فى بولاق، فى مشهد حافل جدًّا متَّجهين به إلى الأزهر الشريف ليُودِّعه الوداع الأخير، وحضر جنازتَه العامَّة والخاصَّة، وصلَّى عليه الناس فى الأزهر، ودُفِن بالبستان.