أشرنا في الحلقة السابقة إلي اجتماع السفير المصري في بلجراد مع الرئيس اليوغوسلافي تيتو يوم 30 مايو 1967 قبل خمسة أيام من الحرب وأبلغه رسالة من الرئيس عبدالناصر حول تطورات الأزمة في نفس الوقت كان تيتو مشغولا بأزمة أخري علي حدوده وهي الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش في اليونان واستولي به علي السلطة وكان انقلابا يمينيا في مجمله ويقال بإيحاء من الولاياتالمتحدة التي لم تكن راضية عن السياسة الخارجية «المستقلة» للحكومة اليونانية في ذلك الوقت بالرغم أن اليونان كان عضوا في حلف الأطلنطي ويجب أن يكون مواليها للولايات المتحدة وسياستها وأذكر هنا أنه حتي في شهر مايو 1967 الذي كانت فيه مصر مشغولة تماما بأزمة غلق خليج العقبة وسحب القوات الدولية من سيناء إلا أنها كانت تبدي اهتماما بما حدث في اليونان بل معارضة له!! ذكر الرئيس تيتو في المقابلة أن الوضع الدولي اليوم أسوأ بكثير عما كان عليه منذ سنتين فالحكومة الفاشية في اليونان رفضت الاتفاق بين اليونان ويوغوسلافيا حول الانتقال عبر الحدود وقامت بحشد قواتها علي الحدود مع ألبانيا وطبقا لبعض التقارير فإن جزءا من هذه القوات موجه ضد يوغوسلافيا وهو لا يعتزم بالرغم من ذلك إرسال حتي رجل بوليس واحد إلي الحدود مع اليونان. لاحظ السفير المصري في المقابلة أن الأمر قد يكون قد بدأ باليونان ولكن الهدف هو السيطرة علي كل البحر الأبيض المتوسط وأعرب عن اهتمامه بمعرفة العلاقات بين يوغوسلافيا وألبانيا فأجاب تيتو بأن العلاقات هي اقتصادية فقط لا تتعدي خمسة ملايين دولار «كانت ألبانيا تحت نظام شيوعي متطرف وبقيادة أنور خوجة» وهي تحت تأثير الصين «في إطار الخلاف الروسي الصيني وسعي كل طرف لاكتساب ولاء الأحزاب الشيوعية الأخري» ولكنه لا يستطيع أن يظل غير مكترث بأي تهديدات توجه ضد ألبانيا. أعرب السفير عن شكر مصر لتزويدها بشحنة من الذرة اليوغوسلافية بلغت ما يقرب من 200 ألف طن إضافة إلي كميات أخري ستتلقاها مقدارها ثلاثون ألف طن وإن كانت لا تزال هناك صعوبات في التبادل التجاري بين البلدين بسبب قيام البنوك المركزية فيها بخلق عقبات في هذا الصدد وهو ما وعد الرئيس تيتو ببحثه. وأجاب السفير عن سؤال لتيتو حول حالة محصول القمح في مصر بالقول إنه جيد هذا العام ولو أن محصول الشتاء السابق لم يكن طيبا وتتوقع مصر أيضا محصولا جيدا من القطن محصول القمح مهم لمصر التي أصبحت لا تتلقي أي مساعدات أو شحنات قمح من الولاياتالمتحدة وقد تلقت القاهرة بعض شحنات القمح من الاتحاد السوفيتي واشترت كميات أخري من الأرجنتين والمكسيك واليونان. سأل تيتو عن صحة الرئيس عبدالناصر فأجاب السفير أنها طيبة وقد سأله أحد الصحفيين في مؤتمره الصحفي عن أحواله بالمقارنة مع عام 1956 فأجاب الرئيس عبدالناصر أن صحته أفضل بكثير وأضاف أن الوضع الداخلي في مصر ممتاز وهي مستعدة للحرب والسلام وبطبيعة الحال هي لا تريد الحرب وعبر تيتو عن تقديره لنجاح الرئيس عبدالناصر في جمع كل الدول العربية حوله فيما عدا ليبيا. أشار تيتو إلي أن الأمور واضحة أمامه ففي حالة وقوع عدوان علي سوريا كيف يمكن للجمهورية العربية المتحدة «مصر» أن تسمح لإسرائيل بأن تتمتع بحماية قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة؟! ولذلك فإن الرئيس عبدالناصر قام بالتصرف الصحيح بطلب سحب هذه القوات كما أنه واضح أن سكرتير عام الأممالمتحدة أوثانت فهم بسرعة ما يحدث طلب عبدالناصر بالذات سحب الوحدة الكندية في القوات الدولية مهم لأن كندا تعمل بوحي من السياسات الموالية لأمريكا التي تعتبر سياساتها معادية لمصر. أشار تيتو إلي الحادثة التي وقعت بشأن طائرة الأممالمتحدة التي كانت تنقل الجنرال الهندي ريكي فقائدها كان كنديا وخبراؤهم «أي اليوغوسلاف» يعتقدون أن هذا الطيار أبلغ الأمر إلي الإسرائيليين ولذلك اعترضتها الطائرات الحربية الإسرائيلية إضافة إلي ذلك فإن مسئولا مصريا كبيرا كان علي متن الطائرة التي إذا ما كانت قد اضطرت إلي الهبوط فغالبا ما كان الإسرائيليون سيحتجزونه ويفرجون عن الآخرين وهذا مجرد افتراض أشاد تيتو بتقرير سكرتير عام الأممالمتحدة حول موضع سحب القوات الدولية من سيناء ومع أنه كان مضطرا لإبداء شعور الأسف علي قرار سحب القوات لكن مجمل التقرير كان جيدا. قال الرئيس تيتو: إن الرئيس عبدالناصر كان بارعا في خطواته عندما قرر إحالة كل المشاكل المتعلقة بإسرائيل إلي مجلس الأمن وهنا أجاب السفير المصري أن هدف القاهرة هو استمرار المناقشة في المجلس حيث إنها تريد الإقلال من خطر نشوب الحرب وهنا وهذا تعليق مني فإن القاهرة شعرت في هذه الأيام السابقة علي حرب 1967 بأن التطورات أخذت منحني بعيدا عن السيطرة خاصة علي ضوء تأكدها أنها لا تستطيع التعويل علي تأييد الولاياتالمتحدة أو حتي حيادها كما فعلت عام 1956 عندما وقف الرئيس الأمريكي أيزنهاور بقوة أمام العدوان الإسرائيلي البريطاني الفرنسي وأجبر إسرائيل علي الانسحاب من سيناء بسرعة. ويبدو أيضا أن إسرائيل كانت قد قررت بالفعل مهاجمة مصر بعد تأكدها من سكوت أن لم يكن رضا واشنطن ووضع العالم كله أمام الأمر الواقع وقبل أن تستطيع مصر تعبئة قواتها في سيناء خاصة أن جزءا لا بأس به من أفضل قواتها كان لايزال في اليمن هذا فضلا أنه في ضوء تزايد الخلافات العربية فإن بعض الدول العربية كانت تهاجم بضراوة الرئيس عبدالناصر متهمه إياه بأنه يترك السفن الإسرائيلية تمر دون أي عراقيل في خليج العقبة أي أنها كانت تزايد علي موقف الرئيس عبدالناصر نفسه. وقد يكون ذلك ما دعاه إلي اتخاذ قرار إغلاق مضيق العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية. في حلقة مقبلة سنتعرض لنصيحة تيتو إلي عبدالناصر التي يبدو منها أنه يتوقع أو يتنبأ بنشوب الحرب بعد أيام قليلة.