من المعروف أن الصينيين، عبر مؤسساتهم العامة والخاصة، قد انتشروا في السنوات القليلة الماضية في جميع أرجاء المعمورة، استحواذا علي مكامن النفط والغاز والمعادن، وهيمنة علي الأسواق، واستثمارا في مختلف الحقول «يبلغ إجمالي استثماراتهم الخارجية نحو 178 بليون دولار». ومن المعروف أيضًا أنهم ركزوا أنظارهم منذ زمن بعيد علي القارة الإفريقية السمراء. وفي الأخيرة منحوا السودان أهمية قصوي، ولا سيما بعد انسحاب شركات النفط الغربية منها في منتصف التسعينيات، حيث دفعت بكين بشريكتيهما النفطيتين العملاقتين «إس إن بي سي وسينوبيك» للاستثمار في أعمال التنقيب والاستغلال للنفط والغاز في السودان، وهو ما جعل الشركة الأولي تمتلك حصة الأسد في أكبر مجموعتين للطاقة في البلاد، أو نحو 60% من أصل 480 ألف برميل من الخام ينتجه السودان يوميا. إلي ذلك، فإن الشركة ذاتها منخرطة في مشروع لمد خطوط أنابيب نفطية بطول 1500 كيلو متر ما بين حقول النفط في الجنوب «حيث يوجد 85% من احتياطات البلاد المكتشفة» وميناء «بورسودان» علي البحر الأحمر في الشمال. وهكذا نظرت الصين دوما إلي استثماراتها في السودان من خلال شركة «إس إن بي سي»، أنها أحد أكثر استثماراتها الخارجية نجاحا ومردودا. ومن هنا يمكن القول إن تقسيم السودان وانفصال جنوبه في كيان مستقل يحمل معه تعقيدات ومشاكل كثيرة لبكين لجهة كيفية إدارة الأصول الصينية المسجلة باسم شركتها النفطية الكبري، وكيفية تنفيذ الاتفاقيات الموقعة مع حكومة الخرطوم، حيث إن هناك عددا لا يستهان به من عقود الامتياز التي وقعتها الأخيرة، والتي يفترض الآن إعادة التفاوض حولها، علما بأن الأمر يعتمد بشكل كبير علي مواقف «الحركة الشعبية لتحرير السودان» التي يُعرف عن زعيمها الحالي «سيلفاكير» ارتباطه بعلاقات وثيقة مع زعماء الحزب الشيوعي الحاكم في بكين، وزيارته لهم أكثر من مرة. هذه العلاقات التي يعتبرها الصينيون بمثابة حجر الزاوية في بناء وتعزيز نفوذهم وحضورهم في الدولة الإفريقية الجديدة، خصوصا أن حضورهم الملموس في الأخيرة يقتصر حتي الآن علي الاستثمارات النفطية، وفندق من الدرجة الثانية، وقنصلية صغيرة في «جوبا» تم افتتاحها في سبتمبر 2008، فيما طموحاتهم تتجاوز النفط إلي الاستثمار في البني التحتية وربط الدولة الناشئة بشبكة مواصلات حديثة مع كينيا، وإقامة موانئ جديدة للتصدير، وغير ذلك من المشاريع التي توطد أقدامهم وتضمن لهم الاستقرار. ويخشي الصينيون من فرضية أن يتجدد القتال بين شمال السودان وجنوبه لأي سبب، خصوصا مع وجود ملفات لم تحسم حتي الآن كملفي الحدود النهائية وتقسيم عوائد النفط. ذلك أن مثل هذا السيناريو، يعني ببساطة سيطرة أحد أطراف الصراع بالقوة علي الحقول النفطية الموجودة في عهدة الصينيين، وتعرض حياة أكثر من 24 ألف عامل وموظف وخبير صيني للتهديد. بل حتي لو لم يتجدد القتال، فإن بكين تخشي من احتمالات قيام الخرطوم بممارسة ضغوط علي الحكومة الوليدة في «جوبا» كي ترضخ الأخيرة لمطالبها. والضغوط هنا قد تأتي في صورة قرار من الشمال بوقف تدفق النفط وتصديره إلي الخارج من مينائه الرئيسي علي البحر الأحمر، خصوصا أن 98% من دخل الجنوب يأتي من النفط. وفي هذه الحالة سوف يكون الضرر الأكبر من نصيب الجنوبيين والصينيين، علي اعتبار أن الشماليين يمكنهم مواصلة حياتهم اعتمادا علي المصادر الطبيعية الأخري، كما كان حالهم دوما. ويقودنا الحديث عن تداعيات تقسيم السودان علي الصين إلي ملامسة جانب آخر من الموضوع هو موقف بكين الرسمي منه. فبكين، علي الرغم من مصالحها المتشعبة في السودان، واهتمامها البالغ بمجريات الأحداث في هذا البلد الكبير، إلا أنها لم تلزم نفسها بموقف صريح وواضح حول مسألة انفصال الجنوب عن الشمال. وبهذا بدت للمراقبين كقوة عالمية مترددة، تخشي من عواقب الانتصار لجهة ضد أخري، مفضلة الانتظار حتي الدقائق الأخيرة لظهور نتائج تصويت أبناء الجنوب علي حق تقرير المصير. ويعزي الكثيرون أسباب التردد الصيني إلي معضلة متفاقمة في أروقة صنع القرار في بكين، هي كيفية المواءمة بين ما تفرضه مصالح البلاد الاقتصادية والاستراتيجية المتنامية من مسئوليات، وبين المبادئ المتجذرة في السياسة الخارجية، وعلي رأسها «مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للبلاد الأخري». هذا المبدأ الذي سنه رئيسة الحكومة الأسبق «شو إين لاي» ضمن مبادئة الخمسة للتعايش السلمي، وذلك بهدف احترام سيادة الدول المستقلة حديثا وترغيبها في التعاون مع بكين، وأيضًا تجسيدا لحساسية الأخيرة المفرطة من تدخل الآخرين في شئونها علي نحو ما حدث في تايوان والتبت. ورغم أن هذا المبدأ تعرض لخروقات صارخة في الستينيات والسبعينيات، حينما قامت بكين بدعم حركات التمرد والثورة في إفريقيا وآسيا، إلا أنه أعيدت صياغته، وصار محورًا للسياسة الخارجية الصينية الجديدة في الحقبة التالية لعام 1978 أي حينما بدأت الدبلوماسية الصينية رحلتها باتجاه الواقعية والبراجماتية، والابتعاد عن تصدير النظريات والشعارات الجوفاء. وكان مما تم التركيز عليه وقتذاك أن عدم التدخل في الشئون الداخلية لبعض الدول الأجنبية التي كانت للصين فيها روابط محدودة في الماضي، لا يمكن تبريره اليوم، وقد صارت الصين قطبا عالميا له مصالحه المتشعبة، خصوصا أن هناك دولا تتربص بتلك المصالح الصينية وعلي استعداد للحلول مكانها. وهكذا رأينا منذ بدايات العقد الأخير من القرن العشرين تناميا مطردا في عدد الشركات الصينية الخاصة وتلك المملوكة للدولة لجهة الانتشار في العالم، بل رافقت ذلك نقاشات عاصفة في دوائر صنع القرار حول كيفية تأمين وحماية المصالح والأصول الصينية في الخارج في حالة اندلاع حروب أهلية أو قلاقل. وكان الاهتمام الأكبر في هذه النقاشات من نصيب كيفية ضمان سلامة أرواح الآلاف من الصينيين العاملين في الخارج وكيفية إعادتهم إلي الوطن، خصوصا أن أكثر من حالة خطف أو قتل لمواطنين صينيين وقعت في الدول المضطربة. إلي ذلك ارتفعت أصوات عديدة تطالب للمرة الأولي بضرورة أن تلعب بكين دورًا ضاغطا في رسم السياسات الداخلية للدول التي لها فيها مصالح استراتيجية، حتي إن استدعي الأمر التلويح بالقوة العسكرية، ويمكن القول إن الترجمة العملية لهذه الأحاديث تجلت في مشاركة البحرية الصينية في عمليات ضرب ومطاردة واعتقال القراصنة الصوماليين علي سواحل القرن الإفريقي. بل تجلت قبل ذلك في قيام بكين بدور محوري في إقناع الرئيس السوداني عمر البشير بالموافقة علي تواجد قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي في دارفور. ويقال في هذا السياق إن بكين لم تقدم علي الخطوة الأخيرة إلا بعدما كثرت الانتقادات ضدها في الأدبيات الغربية حول دعمها لحكومة الخرطوم في حرب الأخيرة ضد متمردي دارفور.