عندما سألت والد الشعراء فؤاد حداد عن صلاح جاهين قال لى فى إيجاز شديد:
لو لم يكت شاهين أى شىء سيكفيه أنه كتب «على اسم مصر»
فقلت له:
ولماذا على اسم مصر بالتحديد؟
فقال لى:
- هذه القصيدة من أروع ما كتب جاهين فى شعر العامية.. وفيها شغل كتير.
وعندما نقلت لجاهين رأى فؤاد حداد فى قصيدته.. أجابنى بكلمة واحدة:
- عنده حق.
فإذا ما تركنا هذه الآراء المقتضبة القاطعة.. وتأملنا هذه القطعة البديعة من أشعار صلاح جاهين والتى كتبها فى أعقاب نكسة 5 يونيو1967.. وأثناء حرب الاستنزاف عندما كان الشعب المصرى يحاول أن يمسح عن جبين مصر عار الهزيمة.. وذل الانكسار.. كتب جاهين هذه القصيدة ونشرت فى جريدة الأهرام على صفحة كاملة.. وبدت كأنها دفقة حياة قادمة من اللاوعى لإيقاظ وبعث وإحياء الروح الوطنية للشعب المصرى.. وكأن جاهين يحاول أن يذكرنا جميعا بأننا شعب أصيل.. صاحب حضارة عريقة.. وأننا لا نستحق هذه الهزيمة.. لأن معدن المصريين مطموس تحت ركام السنين بفعل عوامل كثيرة.. ويحتاج إلى من يصقله ويزيح ما علق به من شوائب حتى يظهر معدنه النفيس وتراه كل العيون الشامتة.. فجاءت هذه القصيدة لترد الاعتبار لمصر وللشخصية المصرية.. إذ كان المصريون على اختلاف درجات وعيهم وثقافتهم وانتماءاتهم قد بدأوا فى أعقاب النكسة مباشرة فى شن حملة ضارية لجلد الذات.. والإمعان فى تجريح الشخصية المصرية.. والإفراط بمبالغة جارحة فى اليأس والقنوط.. وهذه الروح ظلت لفترة تلازم كل المصريين إلى أن بدأ عبد الناصر والفريق محمد فوزى (وزير الحربية).. والفريق عبد المنعم رياض (رئيس أركان القوات المسلحة) فى إيقاع خسائر فادحة وملموسة بقوات العدو الإسرائيلى (إغراق المدمرة إيلات، عملية رأس العش، ضرب ميناء إيلات، موقعة جزيرة شدوان، العمليات المتكررة لرجال الصاعقة ومنظمة سيناء العربية خلف خطوط العدو وفى عمق سيناء).. كل هذه العمليات التى بدأت بمرحلة الصمود والتصدى ثم مرحلة الردع.. ثم الاستنزاف كانت بمثابة رد الاعتبار.. واسترداد الثقة بالنفس.. وعودة الكرامة للجيش المصرى.. ولشعب مصر . فجاءت قصيدة (على اسم مصر) فى توقيت عبقرى.. محملة بكل ما كان يضمره صلاح جاهين فى أعماقه ووجدانه من حب عظيم لمصر.. فإذا به فى هذه القصيدة يفتش عن أسرار هذا الحب بداخله.. وربما بداخل كل المصريين.. وراح يطرح الأسئلة المسكوت عنها على نفسه ويجيب عليها من عمق تاريخ الشعب المصرى.. وسلسلة نضالاته وانتصاراته وانكساراته.. فأخذ يستعرض الصفحات المضيئة فى تاريخ الشعب المصرى.. ويبرر حبه لمصر فيقول فى بدايتها:
على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء
أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء
بحبها وهى مالكة الأرض شرق وغرب
وبحبها وهى مرمية جريحة حرب
بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء
واكرهها وألعن أبوها بعشق زى الداء
واسيبها واطفش فى درب وتبقى هى ف درب
وتلتفت تلاقينى جنبها فى الكرب
والنبض ينفض عروقى بألف نغمة وضرب
على اسم مصر
وبعد أن يعدد جاهين درجات وأسباب حبه الأبدى الخالد لمصر.. نجده يفتش عن لحظات الألق البراقة المحفورة فى وجدان المصريين البسطاء.. كأنه يستعرض (موتيفات شعبية) بديعة التكوين.. فيلفت الانتباه لأشياء بسيطة وعادية قد يغيب سحرها وتأثير ها عن الكثيرين (بياعين الفل، مراية بهتانة فى مقهى، برواز على الحائط.. وهكذا) ولكن جاهين يرصدها ويضعها ضمن مبررات حبه وحبنا الغامض لمصر التى قد نعانى فيها ومنها.. ولكن نعشقها (زى الداء) كأننا مرضى بعشقها.. فيكمل جاهين: مصر النسيم فى الليالى وبياعين الفل
ومرايه بهتانة ع القهوة.. أزورها.. واطل
القى النديم طل من مطرح منا طليت
والقاها برواز معلق عندنا فى البيت
فيه القمر مصطفى كامل حبيب الكل
المصرى باشا بشواربه اللى ما عرفوا الذل
ومصر فوق فى الفراندة واسمها جولييت
ولما جيت بعد روميو بربع قرن بكيت
ومسحت دموعى فى كمى ومن ساعتها وعيت
على اسم مصر
ويمضى بنا جاهين فى رحلة ممتعة يستعرض تاريخ مصر بانتقاء العارف بتضاريس اللحظات المضيئة فى تاريخ البسطاء المصريين.. وكأنه الجبرتى وابن إياس.. وزكى مبارك.. ومصطفى صادق الرافعى.. كأنه يلتقط صورا لكل المناسبات الوطنية الكريمة التى مرت على الشعب المصرى (أنا اسمى حتحور، أن بنت رع، تفيض حلماتى تملا الترع، وتسقى البشر والغيطان، تمثال بديع، ساق محارب مبتورة فى أبو قرقاص، رمل العريش فيها، وملح رشيد).. إلى أن يصل إلى مكنون السر الغامض لهذا العشق العظيم فإذا بصلاح جاهين يحلل كلمة (مصر) المكونة من ثلاثة أحرف ساكنة.. ولكنها مشحونة بضجيج لا تعرفه أى حروف أخرى.. فهى (زوم الهوا) و(طقش موج البحر لما يهيج).. و(عجيج حوافر خيول بتجر زغروطة).. وهى (حزمة نغم صعب داخلة مسامعى مقروطة).. ويمضى جاهين مستمتعا بهذا الوصف الفريد لرنين الأحرف الثلاثة التى تتكون منها كلمة (مصر).. فى حالة متفردة من حالات التعامل مع إيقاع الحروف (م، ص، ر).. وكأنه يعيد اكتشاف كلمة (مصر).. ويضع أسساً جديدة لدلالة الأحرف وعلماً جديداً للصوتيات.. فيأخذنا معه إلى أعماقه الدافئة والعامرة بالحب لمصر من خلال هذه الأحرف الثلاثة التى بهرت جاهين.. فعانى من عشقها كما يعانى المحبون من لوعة الحب لأنثى جميلة ولكن جمالها متعدد الطبقات.. ومواطن وجمالها متشعبة ومتنوعة وغنية.. كأن جمالها ذو ثراء فاحش..
ولكن فى نهاية الأمر يختصر جاهين الطريق إلى قلبها.. فيعلن أن : (شبكة رادار قلبه جوه ضلوعه مظبوطة على اسم مصر).. فيقول فى نهاية قصيدته التى اعتبرها رد اعتبار لمصر بعد مرارة الهزيمة:
مصر التلات أحرف الساكنة اللى شاحنة ضجيج زوم الهوا وطقش موج البحر لما يهيج