التطورات فى اليمن سريعة ومثيرة. كل شىء فيه معلق بين السماء والأرض. اليمن المنقسم على نفسه سياسيا وقبليا ومؤسسيا ومجتمعيا، قد يصبح أكثر من يمن. الاحتمال الأكثر ترجيحا أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، وأن يعلن الجنوب استقلاله عن دولة الوحدة، مستغلا فى ذلك الأزمة السياسية التى فجرتها تحركات الحوثيين المسلحة بالتواطؤ مع الرئيس السابق على عبد الله صالح وأنصاره، والتى بدأت فى 22 سبتمبر الماضى وانتهت فى الأسبوع الماضى بإعلان وثيقة جديدة وقع عليها الرئيس عبد ربه منصور هادى، كانت بمثابة مصادرة تامة للعملية السياسية التى تمر بها البلاد. سيناريو الأحداث الآن مثير ، وبعد أن تقدمت حكومة خالد بحاح باستقالتها للرئيس اليمنى، والذى قبلها، ثم تقدم الرئيس نفسه باستقالته للبرلمان، ورغم أن الأخير لم يقبلها، فلا شك أن اليمن دخل بالفعل فى حالة فراغ سياسى ومؤسسى خطيرين، ولا شك أيضا أن هذا الفراغ يمثل فرصة ذهبية للحراك الجنوبى فى إعلان الاستقلال. وعلى الرغم من أن الاعتراف بالدولة الجنوبية مرة أخرى هو أمر مشكوك فيه، على الأقل للفترة المقبلة، إلا أن مجرد إعلان استقلال الجنوب يعنى أن استعادة دولة الوحدة اليمنية بات أمرا من قبيل المستحيلات. لقد أضاع اليمنيون على أنفسهم فرصة تاريخية، فى أن يكونوا نواة لوحدة عربية. الآن يقدمون المثل الأسوأ. بداية قصة النهاية بدأت فى الاسبوع الماضى، حين قام الحوثيون بالاستيلاء على القصر الرئاسى، ثم بعد أربعة أيام أخرى تخللها حصار الحوثيين للرئيس اليمنى واختطاف مدير مكتبه ومحاصرة رئيس الوزراء، انتهى الأمر بالتوصل إلى وثيقة جديدة لإنهاء الأزمة السياسية حققت كل مطالب عبد الملك الحوثى الأربعة، التى حددها كشروط لا تنازل عنها، فمسودة الدستور الذى انتهى إليه الحوار الوطنى سوف تُراجع وتعدل تماما، ولن يكون هناك تقسيم إلى أقاليم ستة بل إقليمين كبيرين وحسب. والمؤسسات ستفتح أبوابها للعناصر الحوثية لتصبح هى سيدة القرار فى مواقعها الرسمية الجديدة، وستُتخذ إجراءات فورية لتطبيق ما يعرف باتفاق السلم والشراكة الذى تم التوصل إليه بعد يومين من الاستيلاء الحوثى على العاصمة صنعاء فى 21 سبتمبر الماضى، وأخيرا سيتم توسيع عضوية مجلس الشورى. وفى المقابل سيتم الإفراج عن مدير مكتب الرئيس ويُسمح للحكومة أن تعود إلى أعمالها الطبيعية المعتادة مع سحب العناصر المسلحة من قلب العاصمة. الشروط الأربعة وتحويلها إلى اتفاق أو وثيقة رسمية جاء فى ظل مظاهر قوة وعنف وخروج على القانون. وخطورة ما حدث أنه لا يلغى فقط إرادة باقى القوى السياسية اليمنية التى شاركت فى الحوار الوطنى على مدى أكثر من عام ونصف، ولكنه وضع خطوطا فاصلة بين طبيعة السلطة اليمنية فى المرحلة السابقة وبين طبيعتها الجديدة فى المرحلة المقبلة. والأمر الواضح هنا أن سطوة الحوثيين أصبحت عنصرا رئيسيا، والدور الخفى للرئيس السابق على عبد صالح فى هندسة هذه التغييرات أصبح أكثر وضوحا عن ذى قبل. لقد حملت هذه الوثيقة الكثير من المضامين السيئة، وبدت للحظة أنها أفضل ما يمكن الخروج به من قبل رئيس محاصر وبلا حلفاء. والغالب أن قبول الرئيس هادى هذه الشروط المهينة كان بمثابة خطوة تكتيكية حتى يتم رفع الحصار وإنهاء المظاهر المسلحة، ثم بعد ذلك ليترك اليمنيون يتفاعلون مع نتائج تلك الوثيقة كما يريدون. وأيا كانت الخطوة التالية للرئيس هادى، فمن الصعب إغفال مسئوليته المباشرة عما آلت إليه الأوضاع اليمنية، فقد كانت لديه فرصه كبيرة فى وضع اليمن على بداية الطريق الصحيح لاستعادة معنى الدولة، ولكنه فرط فيها ببطء اتخاذ القرار وفقدان الأصدقاء والحلفاء فى الداخل والخارج معا. فضلا عن عدم تقييد حركة بعض أفراد أسرته والذين يُشار إليهم الآن باعتبارهم أصحاب قوة ونفوذ استنادا لنفوذ والدهم، واستغلهم عبد الملك الحوثى فى الضغط على الرئيس وتشويه سمعته. " الكل مسئول عن تحول اليمن من مُسْتَقَر للعروبة إلى مركز لنفوذ إيرانى جديد فى جنوب الجزيرة العربية. والكل سوف يدفع الثمن إن آجلًا أو عاجلًا " لقد فرض عبد الملك الحوثى رؤيته لحاضر ومستقبل اليمن، ومن ورائه جزء مهم من مستقبل الخليج العربى، طبق أساليب وأعراف لا علاقة لها بالدولة الحديثة، استغل تماما ضعف الرئيس هادى وانصراف الحلفاء من حوله، قام بمحاصرة الرئيس هادى فى القصر الرئاسى ثم فى المنزل الخاص، خطف أنصار الحوثى مدير مكتب الرئيس د. أحمد عوض بن مبارك وحاصروا أيضا رئيس الوزراء خالد بحاح. هذه الخطوات هى قمة البلطجة والعنف المرفوضين، وسيكون لها مردودها حتى لو تأخر بعض الوقت. صادر عبد الملك قرار اليمنيين المتمثل فى نتائج الحوار الوطنى، وأعاده إلى نقطة الصفر، وفرض تغيير كل ما تم التوصل إليه فى صورة مسودة دستور لم يعد هناك من يدافع عنه. أثبت عبد الملك الحوثى أنه أقوى من كل مكونات السياسة اليمنية، وأعلى من المؤسسات وأعلى من إرادة اليمنيين أنفسهم. والمهم هنا والغريب أيضا أن اليمنيين تقبلوا الأمر بقدر عال من اللامبالاة، اللهم إلا النذر اليسير هم من وقفوا ضد هذه التطورات الخطيرة واعترضوا وألمحوا باستخدام القوة المسلحة، كشيوخ قبائل مأرب الذين رفضوا الانقلاب على الشرعية وأقاموا الحواجز حتى لا يدخل محافظتهم المسلحون الحوثيون. أما أنصار الحراك الجنوبى فموقفهم أقرب إلى من ينتظر الفرج يأتى له من الخارج، فإن سقطت السلطة فى المركز خاصة إذا كان على رأسها شخص من الجنوب، أصبحت عدن مؤهلة من وجهة نظرهم أن تستعيد دورها كعاصمة سياسية لدولة الجنوب. وهو الحلم الذى يراود بعض الجنوبيين باعتبار أن ما يجرى فى صنعاء هو صراع على السلطة بين قوى شمالية لا شأن للجنوبيين به. " سطوة الحوثيين على صنع القرار اليمنى تطور خطير، والدور الخفى للرئيس السابق على عبد الله صالح فى هندسة هذه التغييرات أصبح أكثر وضوحًا عن ذى قبل " وفقاً للأرقام الصماء، فمن الصعب أن يسيطر ما يقرب من 15% من السكان على باقى السكان. هنا يظهر دور السلاح ويظهر التحالف غير الشريف مع الرئيس السابق على عبد الله صالح وأنصاره الذين ما زالوا منتشرين فى مستويات عدة لصنع القرار فى كل المواقع دون استثناء، ويظهر صمت القوى السياسية اليمنية الأخرى التى لم تحرك ساكنا. كما يظهر أيضا الصمت العربى بما فيه الخليجى والدولى سواء متمثلا فى قوى كبرى أو الاممالمتحدة. الجميع مُشارك فيما وصل إليه اليمن من حافة الانهيار واللادولة. الكل مسئول عن تحول اليمن من مستقر للعروبة إلى مركز لنفوذ إيرانى جديد فى جنوب الجزيرة العربية. والكل سوف يدفع الثمن إن آجلا أو عاجلا. ما يحدث فى اليمن من حيث النتائج القريبة والبعيدة لن يمر مرور الكرام على الجوار المباشر أو من هم أبعد قليلا من هذا الجوار المباشر. الكثير من التقارير الدولية تحدثت فى السابق عن تغييرات كبرى فى الخريطة السياسية للجزيرة العربية تفكر فيها دول كبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، الآن المصادر نفسها تتحدث عن بدايات هذا التغيير بداية من اليمن ومرورا بدول آخرى، ورغم أن هذه التغييرات ستكون مُحملة ببعض القلق والتوتر، ولكنهم قادرون على استيعابه. أو هكذا هم يظنون. ارتباط الأحداث بعضها ببعض ليس أمرا جديدا فى العلاقات الدولية، بل هو الشئ الطبيعى، خاصة إذا كانت الأطراف المتشابكة أو المتنافسة لديها رؤية كلية لمصالحها الرئيسية عبر العالم كله أو أجزاء كبرى منه. من هذه الزاوية يمكن أن نربط ما يجرى فى اليمن بما يجرى فى المفاوضات الإيرانيةالغربية حول البرنامج النووى الإيرانى، وحول الوضع الأمنى فى العراق وحول المفاوضات بشأن سوريا، وحول الجبهة اللبنانية الإسرائيلية. والعنصر الجامع بين هذه الأزمات وغالبيتها العظمى أنها أزمات عربية هو العنصر الإيرانى الأكثر تورطا فى كل هذه الأزمات، تماما كما هو الحال فى التورط الغربى عامة والأمريكى تحديدا والذى يمثل الطرف المنافس أو المتصارع مع إيران وإلى جانبه بعض العرب حسب الحالة والزمن. لفترة طويلة ظن الجميع أن التأثير الخليجى على الأوضاع اليمنية هو معطى رئيسى، الآن ثبت أن هناك سقفا محدودا لهذا التأثير الخليجى، ربما فى الماضى وقبل عقد من الآن كان هناك مثل هذا التأثير. اليوم اختلفت الأمور والمعطيات. التأثير الإيرانى فى حالة ازدهار، النزعة الهجومية الإيرانية لم ينكرها أحد من قبل ولا ينكرها أحد اليوم. التأثير الإيرانى مشهود فى العراق وفى لبنانوسوريا واليمن. كثير من الساسة وأعضاء البرلمان الإيرانى يرون الأمر حصيلة طبيعية لجهود حثيثة لسنوات طويلة مضت، وأموال كثيرة وتحركات معلنة وغير معلنة من أجل نشر وتصدير الثورة الإيرانية إلى المحيط المباشر. النتائج أصبحت موثقة ومعلنة ومعروفة. " عقارب الساعة فى اليمن تعود إلى الوراء، والوحدة التى كانت.. أصبحت الآن على أعتاب أن تكون مجرد ذكرى " هذه حقائق على صانعى القرار العرب أن يأخذوها فى الاعتبار. جنوب الجزيرة العربية بات نقطة تأثير إيرانى جديدة وذات تأثيرات صاخبة. إذا كان هناك من يقبل الحوثيين كقوة سياسية باعتبارهم يمنيين من حقهم الدفاع عن مصالحهم والسعى إلى وضع هذه المصالح فى بؤرة السياسة اليمنية الرسمية، فهذا حقهم ولا مجال للجدال فى ذلك شريطة عدم خرق القانون والتزام بالدستور. أما أن يتصرف الحوثيون باعتبارهم قوة فوق الجميع وأنهم وكلاء لقوة خارجية فهنا لابد من الاعتراض والرفض. إذا تصرف الحوثيون كجزء من تحالف يمنى عريض دون تجاهل لمؤسسات الدولة ولمخرجات الحوار الوطنى، فتلك خطوة ستكون جيدة. ولكن ما حدث هو العكس تماما. لقد استخدموا السلاح والقوة والخطف والإجبار مع تجاهل تام للقوى السياسية والقبلية الأخرى فى اليمن فيما عدا الحليف الوحيد وهو الرئيس السابق على عبد الله صالح الذى أخذ على نفسه عهدا بأن ينتقم من كل الذين وقفوا ضده أو أسهموا بشكل أو بآخر فى خروجه من المشهد السياسى تطبيقا للخطة الخليجية. فرض الحوثى رؤيته كما فرض أنصاره وعملائه فى المؤسسات اليمنية المختلفة. هكذا هى خلاصة الاتفاق الذى وقعه الرئيس هادى مع ممثلى الحوثى. ولكنه فرض أيضا انقسام اليمن وضياع وحدته.