استجابت القاهرة سريعا لمناشدة الرياض، وما دامت الرياض قد استخدمت تعبير المناشدة للقيادة السياسية والشعب المصرى، وربطت الأمر بلم شمل العرب واستعادة التوازن العربى وحماية المصالح العربية والتطلع إلى الأمام وتجاوز الخلافات، فلم يكن أمام القيادة المصرية إلا أن تستجيب لدعوة ملك عربى له مواقفه المُشرّفة والقوية فى دعم ثورة الشعب المصرى فى 30 يونيو، ومعروف عنه عروبته وتمسكه بالوحدة والتعاون من أجل خير العرب والبشرية معا، ومن ورائه قادة خليجيون لهم مكانتهم فى نفوس الشعب المصرى نظرًا لما قدموه ويقدمونه من دعم ومساندة وحب لمصر وناسها. وتأكيدا لتلك الاستجابة جاء بيان الرئاسة المصرية ليعكس حرص مصر الدائم على التعاون العربى المشترك وعلى الأمن العربى وعلى وحدة الأمة العربية، ومن ثم لا يمكنها أبدا أن تتأخر أو تفعل شيئا عكس مبادئها وقناعاتها الكبرى. اللافت للنظر أن بيان العاهل السعودى الذى جاء فى صورة مناشدة تضمن ما يكشف أن الاتفاق التكميلى الذى انتهت إليه قمة الرياض، والذى فتح الباب أمام عقد القمة الخليجية فى موعدها المقرر مطلع ديسمبر المقبل بالعاصمة القطريةالدوحة، ربط الأمر بدور مصر كدولة عربية شقيقة وبدورها فى إطار العلاقات العربية، ومشيرًا إلى حرص القادة الخليجيين كما حدث بالفعل فى قمة الرياض على الوقوف جميعًا كقادة خليجيين إلى جانب مصر والتطلع إلى بدء مرحلة جديدة من الإجماع والتوافق بين الأشقاء، ومن هذا المنطلق جاءت الكلمات مباشرة لمناشدة مصر شعبًا وقيادة للسعى مع القادة الخليجيين فى إنجاح هذه الخطوة فى مسيرة التضامن العربي، «وكما عهدناها دائمًا عونًا وداعمة لجهود العمل العربى المشترك». الاستجابة المصرية الرسمية لم تتأخر، ولم تخرج عن الإطار العام الذى جاءت فيه تلك المناشدة الملكية المهمة والمؤثرة، وهى استجابة ربطت نفسها بالثقة فى حكمة الملك عبد الله، وبجهوده من أجل تجاوز المحنة التى تعصف بالأمة العربية، وتغليبه مصالح العرب العليا على أى شىء آخر، وتساميه على الخلافات، والأهم بقدرة بلاده على متابعة الالتزامات التى يجب على قطر أن تنفذها سواء بحق مصر، والحق المرتبط أيضا بشعوب دول الخليج نفسها فى الأمن والاستقرار وعدم التخلى عن تجربة التضامن الخليجى ممثلة فى مجلس التعاون، وكذلك بحق القضية الفلسطينية المعلقة فى رقاب العرب جميعا، وهذه بدورها التزامات سياسية وإعلامية لا رجوع عنها ولا تهاون فيها لأنها الأساس الذى سيشكل أحد أمرين.. إما استعادة الثقة مرة أخرى فى قيادة قطر باعتبارها جزءًا أساسيًا من المنظومة الخليجية تحرص على تماسكها وبقائها كمنظومة فعالة وفى خدمة أمن الخليج وأمن العرب على السواء، أو استمرار الشكوك فى سلوكيات هذه القيادة باعتبارها قيادة عدائية ومن الصعب الثقة فى أدائها العروبى والخليجى معا. qqq وإذا كانت جهود أمير الكويت طوال عام كامل فى الحوار مع حكام الدوحة، وبيان النتائج السلبية لقطر إذا ما أصرت على الاستمرار فى طريقها المنفرد بعيدًا عن تقاليد العمل الخليجى وبعيدًا عن المصالح الجماعية لدول المجلس قد مهدت لقمة الرياض التى عقدت الأحد 16 نوفمبر الجارى، وهى القمة التى نجحت بالفعل فى إيجاد مخرج لواحدة من أكثر الأزمات البينية بين دول الخليج العربى صعوبة وتعقيدًا، والتى كانت مرشحة لأن تضع مستقبل ووجود مجلس التعاون الخليجى نفسه على المحك، فإن كثيرا من الأسئلة ما زالت مطروحة لدينا نحن المصريين الذين اكتوينا - وما زلنا - بالمواقف القطرية المناهضة لمبادئ مجلس التعاون الخليجى ومبادئ جامعة الدول العربية وقيم العلاقات العربية البينية المعتادة، وأبرزها عدم التدخل فى الشئون الداخلية لدولة عربية أخرى والتضامن معها عند المحن والأزمات وعدم الانتصار للإرهاب والعنف تحت أى ذريعة أو سبب، واحترام إرادة الشعوب العربية. لقد أخذت السياسة القطرية منحى خطيرًا حين قررت الوقوف بقوة مع فصيل سياسى فاشل وإقصائى ضد إرادة الأمة المصرية بأسرها بل الأكثر من ذلك تدخلت فى الشأن المصرى بالتمويل الفج لهذا الفصيل الفاشل ليمارس دوره التخريبى وقتل المواطنين وجنود وضباط الشرطة والجيش، والتحركات الاستخبارية القطرية المشينة، وإيواء المطلوبين من قيادات وأعضاء الفصيل الفاشل وحلفائه للعدالة والمشاركين فى التحريض على هدم الدولة المصرية ومؤسساتها ومواردها الاقتصادية، وتسخير قناة إعلامية كبرى فى أعمال لا علاقة بها بالإعلام كما يفترض أن يكون، وكانت وما زالت بوقا للدعاية السوداء ولتشويه كل ما تفعله مصر وصب اللعنات على قيادتها التى اختارها الشعب طواعية عن ثقة واحترام، والتحريض على المظاهرات والعنف بصورة لا يتصور أحد أن تمارسها وسيلة إعلامية عربية لغرض إسقاط بلد عربى آخر، والأكثر من ذلك قيام إعلاميى هذه القناة بالتعامل مع الشأن المصرى من منطلق الكراهية الشخصية والعداء الذاتى وافتقاد أقل قواعد المهنية فى التعامل مع الأحداث المصرية بحلوها ومرها، وفتح الأبواب على مصراعيها لكل الكارهين والحاقدين على مصر، وإدارة حرب دعائية وإعلامية بهدف توتير الوضع المصرى على غير ما هو عليه، بل الأكثر من ذلك قيام بعض هؤلاء الإعلاميين بتمويل أعضاء فى الفصيل السياسى الفاشل والإقصائى لغرض القيام بأعمال عنف وقتل وتدمير وتخريب للمنشآت الحيوية المصرية، وهو أمر لم نسمع به من قبل، ولكن إعلاميى الجزيرة فعلوه من أجل عيون الإخوان وإرهابهم، ولا ندرى كيف سيكون شعور هؤلاء إذا ما تغيرت البوصلة السياسية لقطر وأصبح الالتزام المهنى هو الغالب وصار الحرص على المصالح العربية هو الأساس فى السياسة القطرية، والتى نأمل أن تعود إلى رشدها. qqq كل ما سبق يشكل غصة الحلق وبعضا من عدم الراحة رغم حرصنا كمصريين على أمن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجى ككل وبلا استثناء. وهى غصة نابعة من أن التزامات قطر لكى تراجع سياستها التحريضية والهجومية والعدوانية على مصر غير واضحة بعد، وهذا ما يجعل الكثير من المصريين فى حال انتظار لما سوف تفعله الدوحة. ومن يتابع تلك القناة الإعلامية فى الدوحة يرى أن بشائر التغيير المنتظر لم تظهر بعد. وإذا كان من حق قادة دول الخليج أن يعملوا للحفاظ على مجلس التعاون الخليجى كبيت كبير لشعوب دول الخليج العربية، وأحد أهم المنظمات الإقليمية الفرعية التى تحمى الأمن والاستقرار فى منطقة الخليج خاصة وفى الشرق الأوسط عامة، فإن من واجب مصر التى تعمل دائما على تماسك الأمة العربية وتعاونها المشترك أن تطلب من كل أشقائها فى مجلس التعاون الخليجى أن يكونوا ضامنين بقوة لسياسة قطر الجديدة المنتظرة، خاصة وأنه بمجرد انعقاد القمة الخليجية فى الأسبوع الأول من ديسمبر المقبل، ووفقا للتقاليد الخليجية فسوف تصبح الدوحة المتحدث باسم دول المجلس لمدة عام كامل، ومن غير المتصور أن يكون المتحدث على موجة وباقى الركب على موجة أخرى، وربما يشكل هذا الأمر ضمانة سياسية بالمعنى النظرى، أما على الصعيد العملى، ووفقا لمواقف قطر السابقة، فالمسألة تخضع لحسابات قطرية أخرى. والمرجح هنا أن المصريين سوف يرحبون بأى خطوة قطرية من شأنها أن تؤكد قابليتها للتغير نحو التضامن العربى ونحو إعلاء مصالح الشعوب العربية على مصالح فصائل سياسية فاشلة. ومن المؤكد أن قطر إن قامت بطرد العناصر الإخوانية إلى حيث العراء الذى يستحقونه، فسوف نشعر كمصريين ببعض الارتياح، وسوف يزداد هذا الارتياح أكثر إن تم تسليم العناصر المطلوبة للعدالة إلى القضاء المصرى من أجل محاسبتهم على ما اقترفوه بحق أمن واستقرار مصر وشعبها. إن تغييرا فى سياسة قناة الجزيرة التحريرية تجاه الشأن المصرى والتخلى عن دور المحرض والمفسد فى الأرض من شأنه أيضًا أن يعطينا بعض الأمل فى أن قيادة قطر أصبحت أكثر إدراكًا لقيمة مصر وإرادة شعبها فى تحديد المسار السياسى الذى يفضلونه ويرونه الأصلح لحاضرهم ومستقبلهم.. إن التخلى عن دعم كل دعوات التظاهر والتخريب الإخوانى هو شرط مهم إلى جانب شروط أخرى لكى نقول إن هناك بادرة أمل فى السياسة القطرية، كما أن التخلى عن تلك اللغة العنيفة وغير الموضوعية هو أساس آخر، والبدء بتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية هو شرط ثان، فما قام به المصريون فى 30 يونيه هو ثورة شعبية كاسحة لم يعرف لها التاريخ مثيلا ضد الفشل والإقصاء وضد توظيف الدين فى السياسة من أجل مصالح دنيوية لفصيل على حساب مصالح الشعب بأسره ، ومن لا يدرك ذلك ولا يدرك أن مصر لديها تصورها الواضح بشأن مستقبل يصنعه الأحرار فهو الملوم فى غبائه وعمى بصيرته. نعم .. مصر تقبل التصالح . نعم .. تقبل سياسة لم الشمل. نعم .. تسعى إلى سد الثغرات فى أمنها وأمن الوطن العربى كله. نعم .. مصر شقيقة كبرى تضحى من أجل أشقائها. لكن التجارب علمتنا أن ننتظر قليلا حتى يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود. والبينة كما يقال على من ادعى.