بعيدا عن الألقاب التى أصبحت تطلق على الجميع لأسباب تجارية، فإن أهمية وقيمة فاتن حمامة تتجاوز كثيرا الألقاب التى حملتها، وكلها مستحقة، فاتن وأدوارها فى السينما بالذات تكاد تعكس صورة المرأة المصرية فى نصف قرن أو أكثر، لم تتعمد هى ذلك، ولكنها كانت جزءا من فترة النهضة والاستنارة فى القرن العشرين، وجزءا من لحظات التحول فى تاريخ الوطن المرأة أيضا، جسدت ابنة المنصورة التى ظهرت لأول مرة كطفلة جميلة غلباوية فى فيلم «يوم سعيد»، ألوانا من النماذج النسائية وفقا لعمرها، وكان العنصر المشترك بين تلك الأدوار هذه السهولة الممتنعة التى تؤدى بها فاتن، كانت قد درست لمدة عام تقريبا فى معهد الفنون المسرحية، ولكنها لم تكمل بعد أن احترفت التمثيل بالفعل، اعتمدت دوما على موهبتها، وإحساسها العالى الذى رافقها منذ بدايتها، هى فى الحقيقة موهبة فطرية صقلها الذكاء والوعى، ودعمتها الخبرة الحيايتة، وأفادها العمل مع كبار المخرجين من معظم الأجيال تقريبا. نستطيع تقسيم أفلام فاتن إلى مراحل أولها المرحلة الصعبة للإنتقال من طفولة «يوم سعيد» إلى أدوار الشابة الصغيرة الأقرب إلى المراهقة، فى فيلم تال لعبد الوهاب أيضا هو «رصاصة فى القلب» لمحمد كريم، كانت فاتن تحاول أن تعبر الجسر بين مرحلتين، هنا لمسات طفولية واضحة، ولكن ذلك لم يطل كثيرا مع ظهور مخرجين مثل حسن الإمام وعز الدين ذو الفقار ويوسف وهبى، من هذه المرحلة يمكن أن تضم أفلام فاتن الأولى مثل «ملائكة فى جهنم» و«ملاك الرحمة» و«أبو زيد الهلالى» و«المليونيرة الصغيرة» و«خلود» و«كرسى الإعتراف»، و«بيومى أفندى»، ومن أنضج أفلامها فى رأيى خلال تلك المرحلة فيلم «ست البيت» من إخراج أحمد كامل مرسى، بصفة عامة، كانت تبدو فاتن كنموذج للأنثى الطيبة ذات الوجه الملائكى، تنبه حسن الإمام بالتحديد فى «اليتيمتين» إلى أنها يمكن أيضا أن تستدر عطف الجمهور فى الميلودرامات، وهكذا قدمت فاتن فى الخمسينات أفلاما ميلودرامية مثل «قلوب الناس» و«ظلمونى الناس» و«انا بنت ناس» و«موعد مع الحياة» و»موعد مع السعادة»، وحققت نجاحا مذهلا، ربما لأنها كانت تمثل نماذج نسائية مسحوقة موجودة بالفعل. فى مرحلة تالية، وفى الخمسينات أيضا، بدأت فاتن فى تقديم ألوان أخرى مثل الفيلم الغنائى (لحن الخلود وموعد غرام ودايما معاك ..الخ)، وأعمالا رومانسية اجتماعية مثل «صراع فى الوادى» و«صراع فى الميناء» و«أيامنا الحلوة»، كما التقط فطين عبد الوهاب قدراتها الكوميدية فقدمت أحد أظرف أفلامها هو «الاستاذة فاطمة» مع كمال الشناوى، كانت هناك أيضا أعمال أكثر عمقا فى دراسة الشخصيات من الناحية الإجتماعية والنفسية مثل «لا أنام» و«الطريق المسدود» و«طريق الأمل» و«الزوجة العذراء» و«سيدة القصر» وبالتأكيد دورها الأهم فى «دعاء الكروان» مع هنرى بركات، نموذج المرأة فى هذه الأفلام أكثر استقلالا وقوة، ولكنها كانت ما زالت فى فترة رمادية، نصف قوية ونصف غلبانة، قدمٌ فى الماضى، وأخرى تستجيب لتغيرات ثورية قادمة. فى الستينات تغيرت صورة المرأة، أصبحت هناك نساء عاملات، قدمت فاتن فى هذه المرحلة مجموعة من أهم أفلامها، كانت هناك درجة ملحوظة فى مناقشة حالات بعينها من نماذج نسائية تنتمى الى طبقات مختلفة، فى «الباب المفتوح» كان المقصود سرد لحظات المخاض التى مرت بها المرأة، وفى «لا وقت للحب» من إخراج صلاح أبو سيف، كانت الشخصية نموذجا جديدا لامرأة عاشقة ومناضلة معا، وفى «الحرام» كانت شخصية عزيزة تلخيصا مؤلما، وعنوانا على وضع طبقة فقيرة بأكملها، وفى «الليلة الأخيرة» كانت شخصية نادية برهان قوية وقادرة على تغيير واقعها رغم أننا أمام دراما تشويقية بالدرجة الأولى، وحتى احتياجات المرأة العاطفية، كانت حاضرة بجرأة فى فيلم «نهر الحب» من إخراج عز الدين ذو الفقار المأخوذ عن «أنا كرينيننا» لتولستوى، بل يكاد الفيلم ينحاز تماما الى اختيارات بطلته حتى لو كانت ضد المجتمع، ستجد هذه الاحتياجات العاطفية، وحق المرأة فى أن تحب فى فيلم «شئ فى حياتى» المأخوذ عن فيلم «لقاء عابر»، نحن إذن أمام نموذج نسائى جديد يتشكل. فى السبعينات، قدمت فاتن حمامة نماذج نسائية أكثر جرأة ، ومن طبقات مختلفة، ستجد فى «الخيط الرفيع» امرأة مستقلة تجمع بين النعومة والشراسة، وستشاهد فى «إمبرطورية ميم» امرأة عاملة لا نظير لها فى قدرتها على مواجهة مشاكلها الخاصة والعامة والعاطفية، وفى فيلم «حبيبتى» امرأة عاشقة من طراز فريد، وفى حلقات سينمائية تلفزيونية مأخوذة عن مسرحيات توفيق الحكيم القصيرة مثل «الساحرة» و«أريد هذا الرجل» نساء قادرات على مصارحة الرجال بحبهن، وفى الفيلم التليفزيونى القصير البديع «أغنية الموت» من إخراج سعيد مرزوق سيدة صعيدية مذهلة تصر على مواصلة طريق الثأر، وفى «أريد حلا» امرأة مطلقة تناضل من أجل حقوقها، أصبحت شخصية راوية نموذجا قلدته نساء كثيرات، وفى «أفواه أرانب» فلاحة مكافحة تصعد بجهدها وتعبها، وتغير واقعها وواقع شقيقتها، نعمت نموذج موجود فعلا لنساء كثيرات، وفى «لا عزاء للسيدات «امرأة مطلقة تواجه كلام الناس وجبن الرجل بجسارة عظيمة، كل فيلم كان ينقل صورة من التغيرات التى حدثت للمرأة المصرية، وكأننا أمام جدارية هائلة، نستطيع من خلال دراستها، أن نرصد مسيرة المرأة، والصعوبات والمشكلات التى واجهتها، وقد تواصل ذلك فى أدوار فاتن التالية فى أفلام مثل «ليلة القبض على فاطمة» و«يوم مر .. يوم حلو» و«أرض الأحلام»، فى الفيلم الأول كان بركات حاضرا أيضا بحساسيته الفائقة، وكان لشخصية فاطمة بعدها الرمزى، كانت عنوانا على زمن رائع يتم سحقه تحت سنابك الجشع المادى، وفى الفيلمين الآخرين كنا أمام معاناة نفسية واجتماعية متعلقة بالأسرة مع اختلاف المستوى الإقتصادى والطبقى، وكنا أمام رؤية مختلفة مع مخرجين من مبدعى تيار اصطلح على تسميته «الواقعية الجديدة»، خيرى بشارة وداوود عبد السيد، وفى كل الأحوال قدمت فاتن ثلاث شخصيات مختلفة تماما، فاطمة القوية ، وعائشة المقاتلة، ونرجس الخائفة، موهبتها العريضة كانت تجعلها قادرة على نحت أى شخصية بكل تفاصيلها. وحتى عندما اختارت فاتن أن تقدم أعمالا تلفزيونية مصورة سينمائيا أو بالفيديو، كانت عينها على النموذج النسائى الذى يشكل نواة الأحداث، المرأة من كل الزوايا، عاطفيا وإنسانيا كما فى حلقات «حكاية وراء كل باب» من إخراج سعيد مرزوق، المرأة والتقاليد كما فى «أغنية الموت»، المرأة الجديدة كما فى مسرحيات الحكيم القصيرة سالفة الذكر من إخراج بركات، المرأة العاملة وعلاقتها بالمجتمع كما فى «ضمير أبلة حكمت» من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج إنعام محمد على، وكانت حلقات «وجه القمر» آخر النماذج النسائية التى قدمتها بعد مسيرة طويلة وعميقة من الأدوار. «فاتن حمامة» وأدوارها بهذا المعنى تشهد على المرأة المصرية ومسيرتها فى القرن العشرين، سعاد حسنى كانت أفلامها أيضا كذلك، ولكن فاتن بدأت فى مرحلة أسبق، وفى أعمالها صورة المخاض القديم لكى تتحول المرأة من خانة المفعول به الى خانة الفاعل، ما بين دموع فيلم «أنا بنت ناس»، وعبارة السباب التى أطلقتها فاتن فى نهاية فيلم «الخيط الرفيع» قفزة هائلة، وما بين طفلة «يوم سعيد» وأنثى فيلم «أريد هذا الرجل» التى تقتحم مكتب حبيبها طالبة الزواج منه تغييرات معقدة وأحلام لم يكن يظن أحد أن تتحقق، فاتن حمامة ليست فقط ممثلة عظيمة تؤدى بمنتهى الصدق والحساسية، ودون ذرة افتعال، ليست فقط نموذجا للأداء السينمائى الذى لم يتأثر لحسن الحظ بمبالغات المسرح، ولكنها صوت المرأة المصرية فى السينما، والدليل الأكيد على أن الدراما أكثر خلودا من أى شىء آخر، وأنها مرآة زمنها ومستودع المواهب الاستثنائة، وقد كانت فاتن من أبرز مواهب فن التشخيص العربى والمصرى على مر العصور.