خلال تسع سنوات تمكن إقليم كردستان العراق من تنظيم قواعده السياسية والدستورية التى وصلت إلى شكل الدولة التى لاينقصها سوى الإعلان. فالتطورات التى حدثت فى العراق تنذر بخارطة جيوسياسية جديدة للمنطقة، يمكن أن تشهد قيام وطن كردى يصبو إليه الأكراد منذ أوائل القرن العشرين، عندما كانوا قاب قوسين أو أدنى من الحصول على وطن قبل أن تطيح لعبة الأمم هذه الآمال، وتجعل كل وعود الدول الكبرى لهم عقب الحرب العالمية الأولى تذهب أدراج الرياح، وهكذا جرى تقسيم الأكراد فى أربع دول هى تركياوالعراق وإيران وسوريا. والأكراد شعب أصيل يعيش فى المنطقة التى عرفت باسم كردستان منذ آلاف السنين، وأخضعت كردستان إلى الحكومات والدول التى حكمت المنطقة. وكان آخر تقسيم هو ذلك الذى حدث عام 1923 والذى جاء نتيجة لمعاهدة لوزان التى قسمت المنطقة على الشكل الذى نعيشه الآن، وأصبحت دولة العراق الحديث والتى وضعت تحت الانتداب البريطانى تتكون من ولايات عثمانية ثلاث هى ولاية الموصل وولاية بغداد وولاية البصرة. وكانت ولاية الموصل وبعد احتلال العراق قد قسمت إلى أربعة محافظات (ألوية) هى: الموصل بأغلبية عربية، وأربيل والسليمانية بأغلبية كردية، وكركوك بأغلبية تركمانية باستثناء بعض الأجزاء الشمالية منها. منذ بداية الاحتلال البريطانى أظهر أكراد السليمانية وأربيل رفضاً واضحاً له ، حيث إن غالبية القيادات الكردية العشائرية والقبلية بل والشعب الكردى بصورة عامة جاهد إلى جانب الدولة العثمانية ضد المحتل الغربي. ولما وجدت القيادات العشائرية الكردية أن القوات العثمانية قد هزمت وأن النية متجهة إلى تأسيس دولة عراقية وتقسيم المنطقة إلى دول، انتفض الأكراد مطالبين بدولتهم أسوة بالدول والشعوب الأخرى. الأمر الملفت للنظر فى تلك الفترة أنه فى الوقت الذى حرصت فيه القيادات العراقية على التفاهم والتقارب مع الشعب الكردى باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الشعب العراقى مع الاحتفاظ بخصوصيته، كانت الإدارة البريطانية تستخدم الورقة الكردية كأداة للتأثير والضغط على الحكومات العراقية المتعاقبة وإجبارها على توقيع المعاهدات والاتفاقات طويلة الأمد والتى تصب فى مصلحة بريطانيا. عند بداية الحكم الوطنى فى العراق عام 1921 أصرت الإدارة البريطانية على إبقاء مسألتين معلقتين، الأولى مصير ولاية الموصل والمطالبة التركية بها، والثانية انضمام المحافظات الكردية إلى الدولة العراقية الجديدة بشكل كامل وتحت ملك عربى هو الملك فيصل الأول. وظلت الإدارة البريطانية آنذاك تروج بأن النفوذ التركى كبير فى كردستان العراق وأن الرغبة لدى الغالبية هى الانضمام إلى الدولة التركية. وبقى السبب الحقيقى غير المعلن يتمثل فى رفض القيادات الوطنية العراقية توقيع معاهدة طويلة الأمد مع بريطانيا. التعامل الرسمى مع المشكلة عندما استقر الحكم الملكى فى العراق، وبعد أن تم إخماد جميع الحركات والثورات والتمردات الكردية فيه، وجد النظام الملكى أنه لا بد من وضع أسس تقوم عليها السياسة الرسمية تجاه الأكراد، وتوصل إلى إمكانية استيعاب الشخصيات الكردية النافذة عن طريق استقطابها فى النظام وتمكينها من اعتلاء أعلى المناصب. ولقد نجحت هذه السياسة بالفعل فى إرضاء أوساط من الطبقة البرجوازية والإقطاعية من الأكراد. وكان يندر أن تشكل وزارة ملكية دون أن يكون على رأسها إما رئيس وزراء كردى أو وزير دفاع أو داخلية أو رئيس أركان للجيش كردى. فى الحقيقة فإن نسبة الأكراد فى الجيش ظلت طوال تلك الفترة أعلى بكثير من نسبتهم فى الشعب العراقى. كما سمح للإقطاعيين بالاحتفاظ بمساحات شاسعة فى الأراضى فى جميع أنحاء كردستان العراق. وهكذا ظلت الحركة الوطنية الكردية المعارضة سرية أولًا، وضعيفة التأثير ثانيًا، ومتعاونة مع الحركة الوطنية العربية العراقية من أجل إحداث تغيير لمصلحتهما المشتركة. بكلمة أخرى إن النظام الملكى العراقى فرّق بين نوعين من الأكراد العراقيين: «الأكراد الموالون»، وهؤلاء لا يوجد أى حاجز أمام تسلمهم أى منصب أو امتياز، و«الأكراد المعارضون»، وهؤلاء لا يوجد أى مجال لاستيعابهم. ولم تختلف الصورة فى العهد الجمهورى الأول. فعلى الرغم من أن الأحزاب والشخصيات والتنظيمات المهنية العراقية ومن ضمنها الكردية شعرت بحرية أكبر فى التحرك والعمل على الساحة السياسية، وعلى الرغم من أن الحزب الديمقراطى الكردستانى بدأ يعمل بصورة علنية حتى قبل إجازته فى عام 1960 ولأول مرة فى تاريخه، إلا أن الموقف الرسمى ظل كما هو غير واضح، ويعتمد على ما تمنحه الدولة من حقوق قابلة للسحب فى أية لحظة. إن الموضوعية والإنصاف يقتضيان القول بإن تعامل حزب البعث مع المعضلة الكردية بعد وصوله إلى السلطة فى عام 1968 كان الأكثر جراءة ووضوحاً. ولو تمكن الحزب من التعامل مع المعضلة بالروح نفسها التى تعامل معها فى نهاية 1969 وحتى إعلان بيان مارس التاريخى فى عام 1970، لكان وضع العراق والأكراد فيه أفضل بكثير مما هو عليه الآن. كما أن الإنصاف والموضوعية تقتضيان القول بإن الطرف الكردي، والمتمثل آنذاك بقيادة الملا مصطفى البارزانى، يتحملان النصف الثانى من المسئولية فى ما آلت إليه الأمور بعد عام 1974. إن ما يهمنا أكثر هو الإقرار بمبدأ الحكم الذاتى كما ذكرنا. حيث تم اعتماد هذا المبدأ وحسب المطلب الكردي، كأساس لإدارة المنطقة الكردية المتكونة من السليمانية وأربيل ودهوك، مع ضم المناطق الشمالية من كركوك، والتى توجد فيها كثافة سكانية كردية إلى المنطقة. وأجاز قانون الحكم الذاتى 1974 تأسيس مجلسين للمنطقة، مجلس تشريعى ومجلس تنفيذى يكونان «منتخبين». بالإضافة إلى مشاركة الأكراد بخمس وزراء فى الوزارة المركزية فى بغداد بعد بيان مارس 1970 أجاز عمل الحزب الديمقراطى الكردستانى بصورة علنية وأُتيح له ممارسة حقه فى فتح فروع له فى كل أنحاء العراق. كما تم قبول مجاميع من الطلبة الأكراد فى الكليات العسكرية العراقية، ودمج قسم من البيشمركة فى الجيش العراقى. كل هذه الأمور الايجابية كانت تبشر بحل سلمى ودائم للمعضلة الكردية، إلا أن ما حدث على الأرض لم يكن ينسجم مع هذه الايجابية. حيث تصاعد التوتر بين الطرفين منذ نهاية عام 1973 ووصل إلى حد الصدام المسلح فى أبريل 1974. وإذا أردنا أن نحصى أسباب التدهور سنجدها كثيرة ويتحمل الطرفين الحكومى والقيادة الكردية حصتهما من الأسباب. والحقيقة فإن المشكلة الأساسية التى لم تحل فى ذلك الوقت، والباقية إلى حد هذه اللحظة، هى أزمة الثقة المتبادلة بين الطرفين، والتى أصبحت صفة ملازمة لكل القيادات الكردية والعربية فى العراق، بل وأصبحت تمتد إلى شرائح اجتماعية كثيرة بين الطرفين. وفى الحقيقة لقد ظلت قنوات الاتصال مفتوحة بين القيادتين الكرديتين والحكومة العراقية وحتى الاحتلال فى أبريل 2003. وظل الحوار دائرًا بصورة متقطعة بين الطرفين. وفى مجال البحث عن حل للمشكلة الكردية كانت تبرز وجهتى نظر مختلفتين ومتباينتين. عقبات أمام الحل على الرغم من أن التاريخ الطويل للمسألة الكردية فى العراق كان يجب أن يؤدى إلى فهم مشترك وتقارب ما بين العرب والأكراد حول الصيغة الأمثل لحل هذه المشكلة، إلا أن الحقيقة تقول إن هذا الفهم لا يزال ناقصًا لدى غالبية الطرفين، وإن التقارب بين وجهات النظر لا يزال بعيد المنال. بل وربما أصبح هذا التقارب بعيدًا جدًا وأبعد مما يُتصور منذ الاحتلال وذلك بسبب الامتيازات الكبيرة التى حصل عليها القادة الأكراد بمباركة قوات الاحتلال أولًا، وبسبب التشتت والضعف الكبير الذى تعيشه السلطة المركزية ثانيًا. وهكذا بدأت ما أطلقت على نفسها «حكومة إقليم كردستان» تتصرف وكأنها إدارة مستقلة فى كل ما يختص بشؤونها العسكرية والأمنية والاقتصادية. كركوك ..كركوك من أهم المسائل التى تشكل عقبة أمام الحل هى مسألة كركوك والإصرار الكردى على اعتبارها «قدس الأكراد» والتصرف بكونها مسألة حياة أو موت وإلحاقها بمنطقة كردستان العراق، حتى أصبح ما يكتب من الكتاب والباحثين الأكراد عن «الأصل الكردى لكركوك» أكثر مما يكتب عن السبل الكفيلة بإيجاد حل سلمى ودائم ومجمع عليه للقضية الكردية فى العراق! وبالتأكيد فإنه فى ظل الزهو بما تحقق للحزبين الكرديين الرئيسيين من انتصار ونجاح، بدأ التفكير ينصب على إثبات (كردية) كركوك وذلك باللجوء إلى القوة العسكرية المتيسرة للحزبين فى سبيل ما يصفونه «بإعادة الطبيعة الديموجرافية فى كركوك إلى سابق عهدها». إن هذا الأمر الذى أثار التركمان والعرب الذين يشتركون فى العيش فى كركوك، بدأ يخلق حساسيات كبيرة. ومن المعروف أن جميع القيادات الكردية، الحالية منها والسابقة، كانت قد وافقت على مبدأ إجراء استفتاء وقبله إحصاء سكانى للمدينة لتقرير مستقبلها. كما أن المبدأ الأساس الذى يجب أن يتبع هو إقرار الحقوق القومية الكردية، السياسية والثقافية منها خاصة، وأن هذا الإقرار سيمكن أكراد العراق من التمتع بحقوقهم فى كل أنحاء العراق. وبعد أن أطلت «داعش» فى الموصل انهار الجيش العراقى فى المناطق المتنازع عليها فتقدمت البيشمركة للدفاع عنها، واستبعد رئيس إقليم كردستان مسعود البرزانى أن تنسحب قوات البيشمركة فى وقت لاحق من المناطق الجديدة التى دخلتها وأنها لن تنخرط فى أى عمل عسكرى خارج هذة الحدود. وشدد البرزانى فى بيان له «إن تمركز قوات البيشمركة فى كركوك لايعنى أن الأكراد يفرضون أنفسهم فيها، فالأكراد سيجرون استفتاء لسكان تلك المناطق وبكل شفافية سيحترم قرارهم». وعلى مدى عقود كانت كركوك دائمًا خطًا أحمر لايستطيع حاكم بغداد التنازل عنها لأنها قاعدة جاهزة بثروتها النفطية لإعلان دولة، ولاشك أن الأكراد يعلمون ذلك جيدًا. لابد من حل أولًا، إن الحقوق القومية الكردية المشروعة لا غبار عليها ولا يمكن الالتفاف حولها، وأن هناك حاجة ماسة لتفهمها واستيعابها والعمل على تثبيتها فى دستور دائم وبصورة صريحة، وذلك بتوافق ممثلى الشعبين العربى والكردى وفى ظروف سلمية وطبيعية. ثانيًا، إن الفشل الحكومى فى إيجاد حل سلمى ودائم للمشكلة ساهم فى تعقيد المشكلة والأخطر فى ذلك هو تعقيد العلاقة بين الشعبين العربى والكردى، وساهم فى فسح المجال إلى التدخل الأجنبى فى المشكلة واستغلالها ضد مصلحة الشعبين الكردى والعربى. ثالثاً، إن التدخل الأجنبى واحتلال العراق فى ما بعد ساهم فى تمزيق البلد واستنزاف ثرواته وفى وضع العقبات أمام التطور الديمقراطى. كما أن هذا التدخل ظل مرتبطًا بالمصالح الخارجية، وفى كل حالاته السابقة فإنه انتهى بالتضحية بالشعب الكردى خاصة، وبالشعب العراقى عامة، وبعد أن يكون الطرف الأجنبى قد ساوم وحصل على مبتغاه من الأطراف الحاكمة. رابعًا وأخيرًا، إن السبب الرئيسى الذى يقف عائقًا أمام حل المشكلة هو ضيق الأفق والتعصب فى القيادات العربية والكردية. لقد انتهج الطرفان الحكومى والقيادى الكردى نهجًا اتسم بالمصلحة فى أغلب الأحيان، وكان كل طرف يتحين الفرص بالطرف الآخر لكى يوقعه، وإذا ما شعر بأنه فى مركز قوة فإنه لا يأبه بما يطالب به الطرف الأضعف، وإذا ما شعر بضعف فإنه يندفع للتقارب مع الطرف الآخر الذى يكون بدوره قد شعر بضعف غريمه المقابل لكى يتصلب هو فى مواقفه. وأخيرًا وليس آخرًا فإن أى حل يُراد له أن يكون دائماً ومقبولاً وعادلًا، يجب أن يعتمد على الحوار المباشر ما بين الأطراف المختلفة، وفى هذه الحالة ما بين الشعب الكردى والشعب العربى فى العراق. وإن الدخول إلى هذه الحوارات يجب أن يكون بعقول مفتوحة ودون أية شروط مسبقة.