هناك ملامح لنظام جديد يتشكل تشى بأنه فصل جديد من حرب باردة جديدة. والحرب الباردة هى نظام خيَّم على العالم طوال 45 عاماً، أطرافه الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية فى مواجهة الولاياتالمتحدة وحلفائها الغربيين، وهدف كل معسكر هو استقطاب بقية دول العالم (العالم الثالث) وكل يحاول أن يفنى عقيدة الطرف الآخر، المذهب الشيوعى، والمذهب الرأسمالى على امتداد ساحة الصراع التى امتدت إلى العالم كله بما فيها قلب كل المعسكرين، باستخدام كل الوسائل غير العسكرية، بما فى ذلك الحرب الاستخباراتية والنفسية والثقافية والسياسية وامتلاك الأسلحة النووية والصناعات العسكرية وغزو الفضاء. وهى حرب باردة لأن توازن وسائل الرعب والفناء لدى العملاقين دفعت موسكووواشنطن إلى تزويد حلفائهما بالوسائل العسكرية التقليدية فى العالم الثالث لإشعال حروب الوكالة بحيث يكون انتصار طرف فى الحرب انتصارا لحليفه العالمى. خلال الحرب الباردة اقتضى الأمن العالمى وعدم المساس بتوازن القوى عددا من الترتيبات كما أحدثت آثارا بعيدة المدى. أما الترتيبات فقد شملت استمرار انقسام كوريا إلى شمالية وجنوبية، واستمرار انقسام ألمانيا إلى شرقية وغربية وغيرها، أما الآثار التى ترتبت على حالة الحرب الباردة، فهى أن السلاح النووى تحول إلى سلاح سياسى، وشلل الأممالمتحدة والمنظمات الاقليمية حيث انتقلت الحرب الباردة إلى حرب باردة عربية وغيرها، وفى ظل هذا الاستقطاب اشتعلت الحروب العربية الإسرائيلية. موقف العرب من الحرب الباردة القديمة، هو الانقسام بين موسكووواشنطن، ولكن الفريقين فى العالم العربى لم يتحاربا لهذا السبب، ولكن هذه الحالة لم تمنع العرب من الاتفاق على خطوط الصراع العربى الإسرائيلى، ثم جاء الاختراق الأمريكى لمصر، فوقع الشقاق الكبير بين مصر، من ناحية، وبقية الدول العربية بما فى ذلك الدول الصديقة لموسكو،التى تصدت لتقارب مصر من اسرائيل وطبيعى أن تخرج مصر قبل هذا التقارب الأمريكى المصرى من الفلك السوفيتى، وذلك بمناسبة تغير النظام فى مصر بعد وفاة عبدالناصر، بل نعتقد أن موقف السادات قد أسهم فى وقت مبكر فى إضعاف المعسكر الشرقى الذى انتهى باختفاء الاتحاد السوفيتى. انتهت الحرب الباردة باختفاء الاتحاد السوفيتى من المعادلة بتفكك الامبراطورية السوفيتية وانفراد واشنطن بقمة النظام الدولى. ولعل الآثار المترتبة على هذا الوضع قد أسهمت فى بزوغ الحرب الباردة الجديدة تماما كما ادى انسحاق المانيا فى تسويات الحرب العالمية الاولى الى انبعاثها لكى تشعل الحرب العالمية الثانية.. وأهم ملامح الحرب الباردة الجديدة خمسة: الأول أن طرفها الغربى بقيادة واشنطن وعلاقة واشنطن بأوروبا ليست بنفس القدر من التماسك فى الحرب الباردة القديمة. والثانى هو أن الاختلاف بين المعسكرين كان أيديولوجيا، وكل يريد أن يثبت فساد أيديولوجية الطرف الآخر. وذلك الصراع الأيديولوجى ألقى بظلال سياسية كئيبة على الشئون الداخلية فى الدول الأخرى. ففى الولاياتالمتحدة ظهرت حمى معاداة الشيوعية التى عرفت بالمكارثية نسبة إلى عضو الكونجرس الذى أشعل هذه الحملة، كما نظر إلى الأحزاب الشيوعية فى العالم الثالث وحتى فى أوروبا على أنها عملاء لموسكو وأدوات فى تقويض مجتمعاتها لصالح موسكو فى هذه الحرب. وقد لوحظ أن الأيديولوجية لم تسقط ولكن الذى سقط هو النموذج السوفيتى لأسباب أغلبها يرجع إلى النموذج والطبيعة البشرية التى ليست مثالية كالتصور الماركسى، كما اصطدمت هذه الأيديولوجية الشيوعية بالدين فى الدول الإسلامية، ولكن هذه الأيديولوجية كان لها ظلال فى الجماعات اليسارية والشيوعية فى بعض الدول العربية، بل فى النموذج الاشتراكى الرسمى المصرى الذى تمت تصفيته فى عصر السادات. الحرب الباردة الجديدة ليست هى الحرب الهادئة أو الاقتصادية كما اقترح البعض فى الغرب، بل حرب باردة بكل معانى الكلمة، حيث يتم إحياء الطابع العسكرى والاحلاف، ولكن هذه الحرب الجديدة قطباها هما كما كانا فى السابق، موسكووواشنطن ولكن موسكو هذه المرة ليست شيوعية، بل لديها نزعة قومية امبراطورية، وأظن أن بوتين هو الذى أحيا هذه النزعة وهى رد فعل للاستخفاف بموسكو واستمرار المخطط الغربى لعزل روسيا التى تتثاقل خطواتها بسبب ما تسميه الإرهاب، والديمقراطية الكسيرة والقدرات الاقتصادية المتواضعة، ومحاولة سلخ الجمهوريات السابقة عن موسكو، بل تشجيع الاقليات فى آسيا الوسطى وداخل روسيا نفسها. اختفاء الأيديولوجيا الشيوعية نزع عن الصراع طابعه الأيديولوجى لأن روسيا تتبع النظام الرأسمالى، رغم أن بوتين يبدو كأنه يريد إعادة الامبراطورية فى ثوب جديد، مما يمثل أكبر التحديات للسياسة الأمريكية، كما يهدد حلف الناتو، والعلاقات الأوروبية الأمريكية. ولكن لا يعتقد أن العالم سوف ينقسم كما كان فى السابق بين موسكووواشنطن فى معظم مناطق العالم. أما فى العالم العربى، فإن موقفه من الحرب الجديدة سوف يكون مختلفاً خاصة فيما يتعلق بالصراع العربى الإسرائيلى الذى كان محور التحالف العربى السوفيتى، والذى تراجع الآن، فترك لموسكووواشنطن تحديد مواقفهما من هذا الصراع على أساس جديد مادام العرب غير متمسكين بالصراع مع إسرائيل بعد تحويل الصراع إلى نزاع على مستوى محدود بين إسرائيل والفلسطينيين. فهل تحدد الدول العربية فرادى مواقفها من موسكووواشنطن وفقاً لما تمثله كل منهما فى علاقاتهما العربية الثنائية؟. فالدول العربية نفسها تعانى حربا باردة عربية على قاعدة الموقف من إيران، أو الصراع فى سورياولبنان أو الحرب الطائفية فى المنطقة فالصراع بين قطر والسعودية قائم حول ملفات عديدة وهى الأزمة المصرية، والأزمة اللبنانية، والأزمة السورية بعد تركيز قطر على التسوية السياسية وليس العسكرية قبل أن يصبح ذلك هو الموقف العربى الرسمى المتناقض. فروسيا تدعم الحكومة السورية، ولذلك تقترب من موقف حزب الله وإيران، لكنها تناقض الموقف السعودى، ولا تلتقى مع الموقف القطرى. موسكو لا يهمها الصراع الطائفى فى العراق ولا المشكلة الكردية فى العراقوسوريا وتركيا، ولكن السعودية يهمها هدم السنة، كجزء من الصراع مع إيران. الصراع بين 8 و14 آذار فى لبنان حول الصراع السورى ودور حزب الله أمر لايهم روسيا إلا بالقدر الذى يسمح بعدم سقوط النظام فى سوريا. أما الموقف الروسى من الأزمة فى ليبيا، فهو الخشية من تغلب التيارات الإسلامية التى حاربت فى الشيشان وفى سوريا، ودعمت الإخوان فى مصر وسوريا. أما الصراع العربى الإسرائيلى، فهو قضية حاولت روسيا أن تلعب دوراً فيها ولكن موسكو تعلم أن إسرائيل هى التى تسمح بأى دور روسى فيها، وحدث ذلك فى مناسبات عديدة سابقة، وتتعامل موسكو مع الطرفين الاسرائيلى والفلسطينى وفق معطيات تخص المصالح الروسية، بعد أن كان هذا الصراع محور الحرب الباردة بين موسكووواشنطن. أما مواقف واشنطن من الملفات السابقة، فهى الدعم المطلق لإسرائيل وعدم إغلاق الباب أمام حماس والسلطة الفلسطينية. وفى الأزمة السورية قررت واشنطن مؤخراً الحل السلمى كحل وحيد وتراجعت عن ضرب سوريا بسبب العامل الروسى فى المعادلة. ورغم مساحة العلاقات المصلحية بين إيرانوروسيا خاصة فى المجال النووى، فإن للطرفين حرية فى مختلف الملفات وإن التقى دورهما فى سوريا عند دعم النظام. الخلاصة: الحرب الباردة الجديدة قد تمتد على اتساع العالم بعد قضية أوكرانيا، وقد تسعى موسكووواشنطن إلى التنافس لتحصيل المكاسب وتحقيق المصالح فى العالم العربى دون أن تشكل تحالفات، خاصة أن تقدم روسيا على أساس سياسى غير أيديولوجى لا يخلق حساسيات فى علاقتها بكل الدول العربية بما فى ذلك الحلفاء التقليديين لواشنطن مثل مصر ودول الخليج، ولكن لا نظن أن موسكو ستصبح ندا لواشنطن فى العالم العربى، أو أن ينقسم العالم العربى أو يتحد على موقف معين جماعى، وسوف تحدد كل دولة موقفها فى كل ملف على حدة بما يحقق مكاسبها، ولكن فى كل الأحوال، فإن الجسارة وأوراق القوة الجاهزة التى حققتها روسيا حققت لروسيا موقفا متقدما فى سلم التنافس. وأخيراً فإن صورة بوتين فى العالم العربى أفضل عند الرأى العام من صورة أوباما، ربما بسبب الموقف الأمريكى المنحاز فى القضية الفلسطينية، بينما لم تعد روسيا أحدا أو تحبط آمال العرب، مادامت واشنطن وليس موسكو هى الأقدر على التأثير على إسرائيل.