وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) جاء صوت «محمد» يشق هدوء المكان الذى لا يقطعه سوى أصوات بعض سيارات النقل الذاهبة أو القادمة من اتجاه القاهرة بلبيس أو الإسماعيلية.. الآيات التى اختارها محمد وهو يؤم زملاءه من المجندين فى صلاة الفجر.. كان لها صداها هذه المرة.. غير كل مرة.. حتى انطبقت عليها شروط صلاة المودع.. كما يطالب الإمام دائمًا فى أغلب الصلوات استقيموا يرحمكم الله وصلوا صلاة مودع.. فعلها مجموعة الجنود الشبان بشكل عفوى.. كان بعضهم قد أنهى خدمة الحراسة.. وانتظر حتى موعد الصلاة لكى ينام قرير العين بعد أن أدى واجبه تجاه ربه وعمله.. والبعض الآخر استيقظ وهو يسمع صوت النداء: حى على الفلاح قاوموا النوم فى هذه الساعة الفاصلة بين ليل يجمع أوراقه.. ونهار يسعى ويطرق الأبواب على استحياء فى نظام إلهى يحكم.. لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر.. ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون.. وسبحان من دبر كونه.. وأحكم الأمر فى ملكوته.. عند كوبرى مسطرد.. وفى الاستراحة الملحقة.. بالكمين وقبل أن تسقط الأجساد المتعبة فى قرار النوم المكين.. تقاطعت الأحاديث والأمنيات والأحلام.. أغلبهم من أبناء العشرين.. وينتمون إلى الريف.. إذا اتجه أحدهم فى إجازة تحولت إلى فرصة لشغل إضافى لكسب لقمة عيش تحتاجها أسرته.. فإذا توفرت مهما كانت متواضعة على الطبلية ابتسمت لها الوجوه السمراء.. والأيدى التى حفر فوقها زمن المعاناة بصماته الحادة.. إنها نفس الأيدى التى ترتفع إلى الأفواه تقبلها على الوجهين حمدًا وشكرًا لله على نعمته ولسان حالهم يقول: إحنا أحسن من غيرنا بكتير! ويحلم بعضهم بعروسة هى غالبا من نفس العينة وهو الحلم المؤجل لظروف التجنيد.. أحمد تكلم على ابنة عمه.. ورمضان.. اعجبته البنت التى تسكن فى أول البلدة ويراها وهى تركب الميكروباص صباحًا فهى تعمل فى مصنع للسجاد.. ومحمود يقول إن زواجه لا يمكن أن يتم قبل أن يساهم فى زواج الأخ الأكبر الذى ضحى بكل شىء.. بعد وفاة الوالد.. العيون المتعبة الساهرة تحرس فى سبيل الله.. ماتزال تقاوم النوم بنكتة أو أمنية وعندما فتح أحدهم الراديو الترانزستور الصغير وجاء صوت قرآن الصباح عبر موجات الإذاعة كالمعتاد.. خيم الصمت الجليل على المكان. وتلألأت فى العيون دمعة وصوت الشيخ رفعت الساحر يروى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)) إنها نهاية سورة لقمان ولم يكن هؤلاء الذين جمعهم الكمين والشهادة يدركون أنها أيضًا نهاية حياتهم التى لم تبدأ بعد.. وأن أحلامهم انتهت إلى هذا الحد عندما انطلقت رصاصات الغدر تحصدهم كل فى فراشه وتدوى الانفجارات. وتتجه العيون والكاميرات إلى هذا المكان دون غيره.. فى مشهد جديد من مشاهد الندالة والقتل باسم الدين والله ورسوله أعلم بأنهم من الخارجين المارقين القتلة.. أرادو من سخرهم لها وأقنعهم بجزائهم أن يسعى إلى السلطة على حساب الدين.. تناثرت الدماء والأشلاء.. اختلطت وجاء أحمد بمحمود برمضان بسيد.. وجاء من يغطى الأجساد التى تحولت إلى جثث وأرقام جديدة فى مسلسل شهداء الوطن والواجب.. الجرائد التى ستروا بها هؤلاء.. كانت عليها صور بعض شهداء الشرطة والجيش ممن سبقوهم إلى رضوان ربهم وواسع رحمته ومغفرته. كان عليها صور وأسماء الذين سقطوا هنا وهناك فى معركة استعادة مصر إلى نفسها وذاتها وكيانها المتسامح العظيم الذى يجمع ولا يفرق.. ويحب ولا يكره.. ويبنى ولا يهدم.. ويخلص ولا يخون الجرائد التى غطت الأبطال قبل أن يتم نقلهم إلى مثواهم الأخير.. كانت بعضها تتحدث عن مبادرة للصلح ينادى عليها حسن نافعة فى كل قناة مثل باعة الأنابيب ويصر عليها إصرارًا غريبا.. يتكلم نيابة عن قتلة لا يريدون إلا الدم.. وفى الجريدة أيضًا خبر آخر بطل القومسيونجى سمسار المقاولات السياسية بين الإخوان والأمريكان.. وبين الإخوان وقطر سعد الدين إبراهيم المتحدث غير الرسمى باسم موزة.. فى ظهيرة نفس اليوم كانت القرى تودع أبطالها الشهداء الأبرياء ماتوا على صلاة وماتوا على وضوء.. وكانت الجموع تهتف على قلب رجل واحد فى اختلاف المحافظات: لا إله إلا الله الإخوان أعداء الله! وعند الكمين جاءت مجموعة جديدة تتولى الحراسة وتنتظر الشهادة..