الأزمة فى أوكرانيا ترجع إلى أكثر من ربع قرن، وبالتحديد عندما تفكك الاتحاد السوفيتى واستقلت أوكرانيا ضمن الجمهوريات السوفيتية. وقد ظن الغرب أن الاتحاد الروسى سوف تصيبه عدوى التفكك حتى لا تقوم لروسيا قائمة، لكن موسكو أنشأت تجمعاً لهذه الجمهوريات فى شكل اتحاد كونفيدرالى يضمن الحد الأدنى من التعاون بين أعضاء الاتحاد السوفيتى السابق، فحلت المصلحة بين دول مستقلة محل الرباط الشيوعى بصوره المختلفة التى تصل بعض تجلياته إلى استخدام القوة عند اللزوم، وقد حدث ذلك فى مرات كثيرة أشهرها عام 1956 فى المجر و1968 فى شيكوسلوفاكيا. الواضح أن موسكو حرصت على تماسك جمهورياتها السوفيتية خلال الحرب الباردة، كما حرصت على تماسك حلف وارسو فى مواجهة الحلف الأطلسى. ولكن الغرب لم يكف عن محاولة اختراق الدولة والحلف إلى أن تمكن من تقويضهما. كذلك لم يكف الغرب عن إبعاد الجمهوريات السابقة عن موسكو التى حرصت على مقاومة هذه المحاولات الغربية. ونذكر فى هذا الصدد ما سمى بالثورات الملونة فى عدد من هذه الجمهوريات ومنها أوكرانيا، ولذلك فإن الأزمة الحالية هى امتداد للأزمة المستمرة كما ذكرنا. وقد سبق لموسكو أن أنهت التمرد فى الشيشان الذى غذاه الغرب ودول اسلامية أخرى بالقوة رغم احتجاج الغرب وواشنطن وفرضت موسكو حكومة موالية لها فى الشيشان لأن تمرد الشيشان كان مقدمة لإنشاء حكومات دينية متطرفة فى جوار موسكو المباشر لآسيا الوسطى. ومعلوم أن موسكو أدرجت جميع الجماعات الإسلامية التى ساندت الشيشان ومنها الاخوان المسلمين على قائمة الإرهاب منذ عام 1995. الذى يحدث فى أوكرانيا يمكن أن يتكرر فى جمهوريات أخرى، ولكن فهم هذا الموقف لا يتم إلا بالإشارة إلى أن الزعيم السوفيتى ستالين قد فرض سياسة لها طابع استراتيجى وهى نقل أعداد كبيرة من الروس إلى الجمهوريات السوفيتية وخصوصاً تلك التى تتركز فيها المصالح الروسية. ولما ورثت روسيا الاتحاد السوفيتى ظل الروس مواطنين فى الجمهوريات بعد أن انتهى الغطاء السوفيتى وحلت محله الرابطة الروسية. كذلك توزعت القوة النووية السوفيتية، وكان لأوكرانيا وكازاخستان نصيب منها، كما ظل أسطول روسيا فى البحر الأسود فى جزيرة القرم، وهى مكان له تاريخ طويل فى الصراع بين روسيا والدول الأخرى. وقد حرصت روسيا على نسج علاقات متشعبة ومصالح متنوعة مع أوكرانيا، ولذلك انتهت الثورة البرتقالية فيها بعد فصول طويلة من فساد القيادات إلى انكشاف مناطق الصراع الحاد بين موسكو والغرب عندما تولت حكومة منتخبة موالية لموسكو زمام الحكم، فساند الغرب المعارضة كما ساعدها فى بلاد أخرى على الثورة على الرئيس المنتخب ووصل نفوذ الغرب إلى الشرطة والجيش والقضاء والإعلام ، ففر الرئيس فى الاسبوع الثانى من فبراير 2014 ولم يجد البرلمان مفرا من عزله وتعيين رئيس وزراء مؤقت مما يعنى فى الحسابات الدولية أن الغرب قد نجح فى الجولة الأولى ضد موسكو. ويبدو أن الغرب قرر أن ينتزع أوكرانيا من الفلك الروسى وضمها إلى الاتحاد الأوروبى، ولكن موسكو قررت إحباط هذه الخطوة واثقة من أوراقها فى أوكرانيا وأهمها الجالية الروسية الكبيرة التى تشكل أغلبية ساحقة فى برلمان القرم والأسطول الروسى القابع هناك والقوات الروسية البرية القريبة من المكان فأصبحت القرم رهينة فى يد موسكو مقابل تسوية مع الغرب، ولكن من الواضح أيضاً أن التسوية سوف تنال من النفوذ الروسى فى مجمل أوكرانيا، ولن تصر روسيا على فصل القرم وإعلانها جمهورية مستقلة كما فعلت فى اوسيتيا فى جورجيا منذ سنوات قليلة، إلا إذا أدركت أن أوكرانيا قد ضاعت فى هذه الصفقة. كذلك يمكن أن تمتد التسوية إلى المشهد السورى وغيره من مسارح الحرب الباردة الجديدة بين واشنطنوموسكو. واللافت أن كلا من موسكووواشنطن يتمسك بأنه يحترم القانون الدولى، وأن كلا منهما يتهم الآخر بانتهاكه، وهذا مشهد بالغ الدلالة على التجاور والتداخل بين العلاقات الدولية والقانون الدولى. والصراع بين موسكو والغرب تنظمه قواعد العلاقات الدولية التى يتفق عليها، أما القانون الدولى فله مبادئ ثابتة ولكن انزال هذه المبادئ على خط العلاقات الدولية يؤدى إلى تفسيرات متناقضة لنفس المبادئ. والثابت أن موسكو لا يمكن أن تفرط فى خروج اوكرانيا من دائرة النفوذ والمصالح، لصالح الغرب ولذلك تمسكت بشرعية الرئيس المنتخب وأدانت تحريض الغرب للمتمردين على السلطة الشرعية. مقابل ذلك تتهم واشنطنموسكو بأنها تتدخل فى شئون الشعب الأوكرانى الذى ثار على الرئيس ومن حقه أن يقرر مصيره، والدولة فى أوكرانيا فى الحالتين بين الجانبين، وفى نفس الوقت فإن حق تقرير المصير الذى تتحدث عنه واشنطن للشعب الأوكرانى ضد الرئيس المنتخب لا تعترف به واشنطن عندما أعلن برلمان القرم أنه سيجرى استفتاء حول تقرير مصير الإقليم بين البقاء أو الانفصال عن أوكرانيا. هذا الموقف فى القرم يهدد السلامة الاقليمية لاوكرانيا ولكنه ينسجم من ناحية أخرى مع الرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية عام 2010 فى قضية الاعتراف بكوسوفو. وهكذا نرى أن جميع السياسات فى إطار الصراع الدولى يمكن تبريرها بمبادئ القانون الدولى التى لا خلاف عليها، خاصة أن قضية كوسوفو أدخلت مفهوماً خطيراً فى قراءة المحكمة الدولية للعلاقة بين حق تقرير المصير والسلامة الإقليمية للدولة، فجعلت حق الشعب يعلو على حق الدولة، وهى نتيجة على أية حال ساهم فى إبرازها قضاة الغرب فى المحكمة وخاصة القاضيين الأمريكى والبريطانى لأن واشنطن دفعت بشدة نحو استقلال كوسوفو الذى أعلن بالفعل عام 2010.