يجب أن يدرك الجميع أننا على أبواب مرحلة جديدة.. رغم ما تحمله من مخاطر وتحديات جسيمة، وإذا كنا نريد مواجهة تلك المخاطر فعلينا أن نبدأ بإعادة ترتيب البيت من الداخل.. هذا البيت الذى يعانى من أمراض كثيرة وأوجاع عديدة انعكست آثارها على أرجاء الوطن.. خاصة على المواطن البائس الذى يدفع الثمن دائمًا.. وغاليًا. ومن هذا المنطلق يجب أن نبدأ بمصارحة الشعب ومكاشفته بحقيقة الأوضاع والأزمات التى نواجهها.. ويجب على الجميع أن يشارك فى بحث هذه المشاكل وأن يضع الحلول المناسبة لها بكل جدية وإخلاص وكفاءة. يجب أن يدرك الجميع - دون استثناء - أننا نواجه مشكلة اقتصادية خطيرة، حيث تراكمت الديون وزاد العجز وارتفعت الأسعار وتدهورت الخدمات التى يستحقها المواطن.. باعتباره إنسانًا قبل أن يكون مصريًا، من حق هذا المواطن على الحكومة أن ينال خدمات أفضل، وأن يعيش فى مستوى أحسن مما يكابده الآن. المصارحة تقتضى أن يعلم الجميع أبعاد المشكلة الأمنية العويصة التى نواجهها.. ليس فقط من خلال الإرهاب أو الجماعات المسلحة.. وليس فقط فى سيناء، ولكن من تشكيلات العصابات والجريمة المنظمة والبلطجية الذين تحولوا إلى كابوس خطير يهدد أمن الوطن والمواطن الذى لم يعد آمنًا فى بيته أو شارعه أو حتى عمله فى ظل هذه الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات المتصاعدة. وكلنا يعلم أبعاد وخبايا المشكلة السياسية التى نعيشها.. فلا توجد لدينا أحزاب جماهيرية قوية بمعنى الكلمة.. أحزاب ذات قواعد عريضة وتنظيم منتشر فى كل القرى والنجوع والكفور، لا توجد لدينا سوى أحزاب كرتونية تبحث عن الشهرة أو المغانم الشخصية أو الأمجاد الزائفة.. وأحزاب بلا جماهير تنتج قيادات هاوية واهية لا تملك مؤهلات إنقاذ الوطن من الأزمات الكارثية التى نكتوى بنارها جميعًا. لذا فنحن بحاجة إلى ثورة سياسية حقيقية تقتلع جذور الفساد داخل الأحزاب وتفرز قيادات وأحزابًا جديدة من الشباب الواعى المؤهل بأدوات العلم الحديث والخبرات المتنوعة والعلاقات المتشعبة - محليًا وإقليميًا ودوليًا - ورغم ذلك فلا بأس من استنفار قوى الشباب داخل الأحزاب بل يجب استنهاض هذه الوجوه الصاعدة الواعدة وتقديمها نحو الصفوف كى تحتل المكانة اللائقة بها، ونحن على ثقة بأنها سوف تقدم الكثير من الإبداعات والابتكارات للخروج من أزماتنا. ونحن نطالب رئيس الوزراء - كما طالبنا مرارًا على مدى سنوات - باختيار الشباب المتميز الواعى المؤهل وإعطائهم فرصة القيادة داخل كافة الوزارات والمصالح والمؤسسات. لنبدأ التجربة فورًا حتى نخفض متوسط سن كهولة الحكومة والوزراء العتيقين منذ زمن طويل. ورغم أخطاء وخطايا الأحزاب الحالية والقوى السياسية العتيقة، إلا أن بها بعضًا من الخير وشذرات من القدرة والخبرة التى يمكن أن تعالج بعض مشاكلنا.. فلديها خبراء ومتخصصون فى المجالات الاقتصادية والمالية والمائية والأمنية، ويمكن تجميع أفضل هؤلاء فى إطار علمى عملى واحد يناقش قضية معينة ويضع تصورًا لحلها ويطرحها على الشعب لإثرائها وتطويرها. وحتى نخرج من هذا النفق يجب أن نبدأ فورًا خطة لتحقيق اصطفاف وطنى حقيقى يشمل الجميع دون استثناء - الآن وليس غدًا - هذا هو رأيى بإخلاص وصدق وحب لهذا الوطن الذى أعشقه حتى النخاع، ولا أقبل مزايدة عليه أو إساءة إليه. وتحقيق الاصطفاف الوطنى الحقيقى يعنى أن نجمع المُعارض قبل المؤيد والكاره قبل المحب والعدو قبل الصديق.. ولنقتدى بكلام الله عز وجل: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). فصديقى لا مشكلة معه لأنه فى صفى ويؤيدنى ويساعدنى ويؤازرنى، أما عدوى فهو الذى أريد أن أكسبه.. فى إطار معركة كسب العقول والقلوب التى يخوضها الغرب وتجيدها كثير من الدول، أما نحن فمازلنا تلاميذ فاشلين فى هذه المدرسة! وحتى تكون الأمور أكثر وضوحًا وجلاءً فإن تجميع الصفوف لا يعنى المصالحة مع من ارتكبوا أعمالًا إرهابية أو صدرت ضدهم أحكام جنائية أو ارتكبوا أعمالًا إجرامية.. لا مصالحة مع كل من يثبت عليه حمل السلاح ضد أبناء وطنه.. ولكن الاصطفاف الوطنى يتطلب أن نفتح عقولنا وقلوبنا لاحتواء من خرجوا عن الإجماع الوطنى ومن انحرفوا عن الفكر الدينى القويم (مسيحيًا أو مسلمًا)، فالشطط والتطرف والغلو لا يرتبط بدين معين.. كما حال الغرب فى شيطنة الإسلام بادعاء الإرهاب. فهذه لعبة خطيرة نحذر منها.. نحن لا نريد أن نساهم فى الإضرار بديننا وعقيدتنا تحت أى مسمى أو شعار، ولكن تحقيق الاصطفاف الوطنى يقتضى أن نجمع كل القوى، وأن نضمها إلى حضن الوطن.. فهم أبناؤنا مهما شطوا وتجاوزوا وأخطأوا، ولكن دون إرهاب أو حمل للسلاح أو ممارسة العنف المقيت المرفوض بكل المقاييس. وهذا الاصطفاف الوطنى يقتضى تحقيق توافق فكرى أيديولوجى يقوم أساسًا على حب الوطن والرغبة فى التضحية من أجله وحمايته بأغلى ما نملك، والأديان السماوية تحض على حماية الأرض والعرض والمال وكل الممتلكات بما فى ذلك حقوق الملكية الفكرية. وكلنا يفهم أن ديننا يحضنا ويحثنا على الفكر والتفكر فى ملكوت الله، وأن نبحث وندرس ونفهم ونتعلم ونعلم.. فهذه مهمتنا الأسمى: عمارة الكون وليس الأرض فقط، وعمارة الكون تبدأ بعمارة الوطن.. بل ببناء البيت والشقة الصغيرة التى تجتمع الأسرة داخلها، فهذه هى بداية الإصلاح والصلاح، فبناء أسرة صالحة قوية محترمة ملتزمة بالمبادئ والقيم السامية هو البداية الصحيحة لبناء الوطن. نريد أيضًا أن نتفق على مشروع وطنى نجتمع حوله.. نفكر فيه ونقتنع ونؤمن به ونخطط لتحقيقه بكل ما أوتينا من قوة وعزم وإمكانات، وهنا نحن لا نريد أن نفرض مشروعًا قوميًا محددًا، ولكن دعونا نفكر ونقترح ونتفق وربما تأتى فكرة عبقرية من شاب صغير أو فتاة مبدعة، ولكن لنفتح الباب لإطلاق الإبداعات والابتكارات من أجل إنقاذ الوطن. الاعتماد على الذات أحد أهم وسائل الخروج من هذه الأزمة الكبرى.. «فما حك جلدك مثل ظفرك» ولن تنفعنا سوى سواعدنا مع الاحترام والتقدير لكل من ساعدونا ومازالوا يساندوننا، ولكن الأهم أن نساعد أنفسنا ونعتمد على ذواتنا، ونحن على ثقة بأن مصر حافلة بالكنوز والخيرات والثروات.. وأهمها وأغلاها الإنسان المصرى المبدع المفكر المبتكر. أعتقد أن سواحلنا الممتدة على مدى آلاف الكيلومترات يمكن أن توفر لنا غذاءً وفيرًا من الأسماك ويمكن أن نستزرع شواطئها بالقمح.. بل إن مياهها المالحة يمكن أن تفيد فى الشرب وفى الزراعة أيضًا.. هذا من الشواطئ والبحيرات الممتدة على أرض مصر فقط، والنيل ذاته شريان الحياة الأساسى يمكن استثماره بأساليب أفضل لتعظيم عوائده وزيادة فوائده، سواء فى النقل أو السياحة أو الرى بطرق حديثة متطورة. ونعتقد أن محور قناة السويس الذى طرحه العديد من النظم والحكومات على مدى عقود يمكن أن يحقق نقلة نوعية فى الأداء الاقتصادى، وأن يوفر فرص عمل هائلة للشباب، بل إنه سوف يعيد لمصر مكانتها وريادتها الإقليمية بكل تأكيد. والأداء الإعلامى المنفلت هو أحد أخطر مشاكلنا، وللأسف الشديد نلاحظ ذلك من خلال العديد من القنوات والصحف والمجلات والمواقع التى لا تميز الغث من الثمين، ويكفى أننا التقينا مسئولًا رفيعًا قبل أيام قلائل طلب عدم نشر الحوار.. ففوجئنا جميعًا بنشره فى كل المواقع، بل تسابق بعض الحاضرين فى النشر دون التزام بالمعايير المهنية والضوابط الأخلاقية الصحيحة، وقد تعلمنا من أستاذنا الراحل الكبير جلال الدين الحمامصى أصول احترام قيمة الكلمة ودقة المعلومة والوفاء بالوعود والالتزامات مع كل الأطراف.. بما فى ذلك المواطن البسيط الذى له حق علينا. وهناك وسائل إعلامية تجاوزت كل الحدود الأخلاقية من حيث عرض الفن الهابط والمخزى بطريقة تدمر قيم المجتمع ومبادئه، وللأسف الشديد يتم التصريح لهذه القنوات والمواقع بالعمل والاستمرار وتجتذب الكثير من الإعلانات ويدعمها رجال الأعمال وتمتدحها «النكبة» التى عفى عليها الزمن! وإذا كنا نرفض هذا الخلل الإعلامى فإن أركان وقيادات الدين الإسلامى والدين المسيحى مطالبون بإعادة صياغة الخطاب الدينى وفقًا لمبادئ التسامح والوسطية والاعتدال والتراحم ونبذ العنف والتطرف بكل أشكاله وأيًا كان مصدره. نحن نريد مجتمعًا متوافقًا مع تاريخه وحضارته ومبادئه يدرك حجم المخاطر والتحديات التى تواجهها أرض الكنانة، وهذا لن يتحقق إلا بالاصطفاف الوطنى الحقيقى والمخلص.. فهل نبدأ الخطوة الأولى على الطريق الصحيح؟ *** أحمد شاهين يستأنف سلسلة «الشر الأوسط الجديد» الأسبوع القادم.. بمشيئة الله