وافق الشعب المصرى على الدستور الجديد وقال كلمته الخالدة بشأن رفضه للإرهاب وموافقته على مبدأ العدالة الانتقالية ، وقد طالبنا فى عشرة مقالات سابقة فى مجلة أكتوبر بتطبيق العدالة الانتقالية فى مصر بعد ثورة 25 يناير وطالبنا بضرورة النص عليها فى دستور 2012 وقد بدأت تلك المقالات بالمقال المنشور فى مجلة أكتوبر فى ديسمبر 2012 ، ومع ذلك فقد خلا دستور 2012 من النص على إصدار قانون للعدالة الانتقالية وقد أخذ برؤيتنا الدستور الجديد لسنة 2013 حيث تضمنت المادة (241) منه أنه «يلتزم مجلس النواب فى أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وذلك وفقاً للمعايير الدولية» ، وسوف نتناول فى هذا المقال كيفية تطبيق العدالة الانتقالية المنصوص عليها فى الدستور الجديد وذلك فيما يلى : أولاً : المعنى العام للعدالة الانتقالية Transitional justice يمكننا تعريف العدالة الانتقالية بأنها مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التى قامت بتطبيقها عملياً دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال الفترات السابقة على الثورات والتحول إلى الديمقراطية ويقوم على متابعة إجراءات هذه العدالة دولياً المركز الدولى للعدالة الانتقالية International center for transitional justice والذى يقع مركزه الرئيسى فى مدينة نيويوركالأمريكية وله مقرات فى العديد من دول العالم المعاصر. وتأسيساً على ما تقدم فإن العدالة الانتقالية – بالمعنى سالف البيان- ليست نوعًا «خاصًّا» من العدالة، وإنّما هى حلول واقعية مبتكرة لتحقيق العدالة فى فترات الانتقال والثورات والنزاع السياسى فى بعض الدول وذلك لمواجهة قمع الدولة لبعض طبقات الشعب فى مراحل الثورات كما هو الحال فى مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا ، وتختلف هذه الحلول من دولة إلى أخرى ويتم هذا الانتقال من خلال محاولة تحقيق المحاسبة وتعويض الضحايا، حيث تُقدّم العدالة الانتقالية اعترافاً بحقوق الضحايا وتشجّع الثقة المدنية بين أفراد المجتمع، وتقوّى سيادة القانون والديمقراطية. ثانياً: أهمية تطبيق العدالة الانتقالية بعد دستور 2013 تبدو الأهمية الكبرى لتطبيقات العدالة الانتقالية فى الحقيقة الثابتة والتى تفصح عن أنه فى أعقاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، يحقّ للضحايا أن يروا معاقبة المرتكبين ومعرفة الحقيقة والحصول على تعويضات. ولأن الانتهاكات المنتظمة لحقوق الإنسان لا تؤثر على الضحايا المباشرين وحسب، بل على المجتمع ككلّ، فمن واجب الدول أن تضمن، بالإضافة إلى الإيفاء بهذه الموجبات، عدم تكرار تلك الانتهاكات، وبذلك واجب خاص يقضى بإصلاح المؤسّسات التى إما كان لها يد فى هذه الانتهاكات أو كانت عاجزة عن تفاديها. وعلى الأرجح أنّ تاريخاً حافلاً بالانتهاكات الجسيمة التى لم تُعالج سيؤدى إلى انقسامات اجتماعية وسيولّد غياب الثقة بين المجموعات وفى مؤسّسات الدولة، فضلاً عن عرقلة الأمن والأهداف الإنمائية أو إبطاء تحقيقهما. كما أنّه سيطرح تساؤلات بشأن الالتزام بسيادة القانون وقد يؤول فى نهاية المطاف إلى حلقة مفرغة من العنف فى أشكال شتّى. وكما يبدو جليًّا فى معظم الدول حيث تُرتكَب انتهاكات لحقوق الإنسان ، لا يمكن نسيانها مع مرور الأيام مهما طالت. ثالثاً: رؤيتنا بشأن السريان الموضوعى والزمانى للعدالة الانتقالية فى مصر: ونحن نرى أنه يجب أن يتضمّن قانون العدالة الانتقالية المشار إليه فى الدستور الجديد تحديد الإجراءات الموضوعية للعدالة الانتقالية والتدابير والضبط القضائى ، وتحديد لجان للكشف عن الحقيقة وتقصى وتحليل الحقائق، والبرامج التعويضية لجبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات الأمنية والعقابية وغيرها. فإن مختلف العناصر المكوَّنة لسياسة العدالة الانتقالية ليست عبارةً عن أجزاء فى لائحة عشوائية، إنّما هى تتصل الواحدة بالأخرى عمليًّا ونظريًّا. وأبرز هذه العناصر الأساسية هى الملاحقات القضائية. رابعاً: رؤيتنا بشأن كيفية تطبيق الضبط القضائى للجناة فى العدالة الانتقالية فى مصر: كما نرى أنه يجب أن يتضمّن قانون العدالة الانتقالية المشار إليه فى الدستور الجديد تحديد كيفية الضبط القضائى للجناة فى العدالة الانتقالية الخاضعين لنظام العدالة الانتقالية ومحاسبة هؤلاء الذين يرتكبون الجرائم على نطاق واسع أو منتظم ويجب أن يسعى القانون إلى دعم وترسيخ مبادرات العدالة الجنائية حول العالم، من خلال تقديم المساعدة الفنية للذين يشاركون فى تحقيقات وملاحقات قضائية معقّدة، وعبر تشارك الدروس المستخلصة من برامجنا الميدانية وأبحاثنا. يشكّل التحقيق فى الجرائم الدولية والمحاكمة عليها – بما فى ذلك جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب – مكوّناً أساسياً للعدالة الانتقالية . ويجد هذا الواقع المصرى جذوره فى الموجبات القانونية الدولية التى تعود إلى محاكمات نورمبرج، وقد استُكملت مع المحاكم الجنائية الدولية الخاصّة بيوغوسلافيا السابقة وبرواندا. وتساعد التحقيقات مع القادة ذوى النفوذ (سياسيين أو عسكريين) ومحاكمتهم على حدّ سواء فى تقوية سيادة القانون، وتبعث برسالة قوية مفادها أنّ الجرائم من هذا النوع لن يُسمح بها مطلقًا فى مجتمع يحترم الحقوق. ولا تزال المحاكمات مطلباً رئيسياً للضحايا. ومتى تمّت بأساليب تعكس حاجات الضحايا وتوقّعاتهم، أمكنها أن تضطلع بدور حيويّ فى إعادة كرامتهم وتحقيق العدالة. إنّ الملاحقات القضائية وحدها لا يمكنها تحقيق العدالة بمعزل عن إجراءات أخرى. فالطبيعة الواسعة النطاق لهذه الجرائم تُظهر أنه غالباً ما يتعذّر معالجتها من خلال نظام العدالة الجنائية العادى – ما يولّد «ثغرة الإفلات من العقاب». وغالباً ما تركّز استراتيجيات الملاحقة الفاعلة الخاصّة بالجرائم الواسعة النطاق على المخططين للجرائم ومنظمّيها، أكثر منه على ذوى المراكز الأقلّ شأناً أو مسئولية. ومن الممكن أن يساهم تطبيق استراتيجيات الملاحقة القضائية إلى جانب مبادرات أخرى – مثل برامج التعويض أوجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، والبحث عن الحقيقة – فى سدّ «ثغرة الإفلات من العقاب»، بملاحقة الجرائم التى تشمل عدداً كبيراً من الضحايا والمرتكبين. 1- الضبط القضائى المحلى للجناة فى العدالة الانتقالية إنّ الضبط القضائى على الجرائم الدولية مثل الإرهاب الدولى قد تُحدِث أثراً أكبر متى تمّ ضبطها محلياً فى مصر فى المكان الذى ارتُكِبَت فيه الجرائم. إلا أنّ المجتمعات الخارجة الأخرى فى نزاع معيّن أو التى تمرّ بمرحلة انتقالية، قد تفتقر إلى الإرادة السياسية لملاحقة هذه الجرائم، وقد تعجز الأنظمة القانونية أمام حالة مماثلة لحالة مصر . والدليل على ذلك أن الأنظمة القانونية المتطوّرة – التى تعالج الجرائم العادية بشكل أساسى – قد تفتقر إلى القدرة على معالجة هذه الجرائم بفعالية. وقد تستوجب هذه المشاكل المساعدة الدولية التى ترتكز على الممارسات الأفضل فى أماكن أخرى – وعلى سبيل المثال القيام بتشكيل محاكم «مختلطة» تضمّ شخصيّات فاعلة، دولية ومحلية، فى مجال العدالة. وقد أُنشأت هذه المحاكم فى سيراليون، وكوسوفو، والبوسنة، وتيمور الشرقية، وكمبوديا، ومع ذلك فإن هذه المحاكم المختلطة لا تناسب مصر. 2- الضبط القضائى الدولى للجناة فى العدالة الانتقالية ودور المحكمة الجنائية الدولية تعمل المحكمة الجنائية الدولية طبقاً لنظام روما الأساسى لسنة 2002 على التحقيق مع الأفراد المسئولين عن الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية ، وتعمل على محاكمتهم– فى الحالات التى تكون الدول فيها غير راغبة أوغير قادرة على القيام بذلك. وبموجب مبدأ «التكامل» المنصوص عليه فى نظام روما الأساسي، يبقى من واجب المحاكم المحلية تحقيق العدالة – بحيث تكون المحكمة الجنائية الدولية الملاذ الأخير. وفى السنوات الأخيرة، أدّت المحاكم المحلية هذا الدور بشكل متزايد. خامساًً: الدور الذى يمكن أن يقوم به المركز الدولى للعدالة الانتقالية International center for transitional justice يلعب المركز الدولى للعدالة الانتقالية دوراً طليعياُ فى تقديم المساعدة والنصح إلى الحكومات والمجتمع المدنى والأفراد أو المؤسسات المعنية بمجال العدالة وتقييم الأداء. وتدعيم المشاركة الدولية بين مختلف الدول فى الدروس المستخلصة وتوجيهها نحو الممارسات الأمثل من تجارب العدالة الجنائية حول العالم وإصدار التوجيهات المناسبة للدول التى تواجه هذه الظاهرة. كما أنه توجد لدى المركز خبرة خاصة فى كيفية تكيّف الأنظمة القانونية المحلية للتحقيق فى الجرائم الواسعة النطاق أو المنتظمة مثل جرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية والإبادة الجماعية، والملاحقة عليها ونعرض بعض جهود المركز الدولى للعدالة الانتقالية فى بعض الدول ومنها: 1- أوغندا وكينيا والكونغو الديمقراطية، قام المركز بتقديم التوصيات باتباع الطرق التى تتيح تعزيز الملاحقات المحلية. 2- وكولومبيا، قدم المركز الدعم القانونى إلى المعنيين فى مجال العدالة وإلى ممثلى الضحايا فى الإجراءات الجنائية ضدّ الأعضاء السابقين فى المجموعات العسكرية غير الحكومية بموجب قانون العدل والسلام (2005). 3- والأرجنتين، قدّم المركز النصح الفنّى إلى المدّعين العامين والمنظمات غير الحكومية المحلية الذين يعملون على الدعاوى الجنائية. 4- وبنجلادش، ساهم المركز فى مبادرة محكمة الجرائم الدولية لمحاكمة الجرائم الواسعة النطاق التى ارتُكِبَت فى عام 1971. 5- وأفغانستان، ساعد المركز لجنة حقوق الإنسان الأفغانية المستقلّة على توثيق جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية من 1978 إلى 2001. وسوف نتناول فى مقالات لاحقة باقى مساهمات مجلة أكتوبر فى صياغة الدستور الجديد ومنها منح النيابة الإدارية سلطة توقيع الجزاءات التأديبية على العاملين بالدولة وأن يتم الطعن فى تلك الجزاءات أمام مجلس الدولة.