لم أدر ما الذى علىّ أن أقوله لهذا الشاب النابه، بعد قراره أو نجاته من هذه التجربة المذلة التى قلبت كل قناعاته ويقينه رأسًا على عقب، وأصابته بجراح ثخينة فى كل شبر من روحه وجسده.. هل أغبطه على سلامة الفوز بالنجاة، أم أحسده على خوضه مثل هذه التجربة النادرة.. أم أشفق عليه من حجم معاناة هذا الكشف الفاضح لخفايا المستور، والتعرية للأشخاص والمواقف والمبادئ التى عانى منها فى لحظة عبثية حتى لو طالت به سنوات.. هذا الشاب الذى قدم مشاهدات حية وموجعة من داخل الجماعة الإسلامية قبل وبعد مبادرة المراجعات فى كتابه الفارق «الخروج من بوابات الجحيم» إنه المبدع ماهر فرغلى. إنه أحد الكتب القليلة الذى يمنحك مصباحًا شديد الإضاءة ينير به كثيرا من المواقف والأحداث التى كانت غير واضحة او مبررة من قبل، ويكشف حقيقة نفر من الشخصيات والأسماء التى أصابتنا بتلبك عقلى من كثرة تلونها وقفزاتها وكذبها.. إنه كتاب «الخروج من بوابات الجحيم» و«الجماعة الإسلامية فى مصر من العنف إلى المراجعات» و«مشاهدات من الداخل» الصادر عن مركز الدين والسياسة للدراسات مع مؤسسة الانتشار العربى. وقد حرص ماهر أن يسجل أنه بدأ العمل فى هذا الكتاب وهو فى سجن الوادى الجديد وانتهى منه قبل أيام من ثورة 25 يناير ونشره بعد قيام الثورة مباشرة.. إذن هو كتب قبل الأحداث الجسام التى أعقبت الثورة بما فيها من تولى جماعة الإخوان رئاسة مصر لمدة عام كامل، ثم إزاحتهم بموجة أخرى من الثورة. وقبل أن يتبادر إلى ذهنك أن أهمية هذا الكتاب تكمن فى أنه سيجيب عن الأسئلة العريضة والعويصة التى تدور عن الجماعات الإسلامية التى توالدت فى المجتمع وانتشرت به كالوباء، أو يكشف لطبيعة نشاطها ودورها، أسارع بالقول بأن هذا ليس المراد فقط، لأن الكتاب يقدم من الأسئلة ويثير من التساؤلات أكثر بكثير من الحقائق التى يقدمها ويطرحها على أهميتها وخطورتها، وهذا مما يمنح الكتاب قيمة مضافة. وإذا كان المؤلف قام فيما أظن بكتابة تجربته وتسجيلها كوسيلة من حيل التطهر من وزر التجربة وعبئها، أو ربما توثيقًا لرؤيته الخاصة فى أحداث أثارت ومازالت تثير من اللغط واللبس. وإن كنت أنا اعتبر ما قام به ماهر فرغلى بكتابه هذا درجة من درجات الجهاد والمقاومة الرائعة والمطلوبة والتى اتمنى أن يجاريه فيها كل من عاش وعايش تجربة الانضمام لمثل هذه الجماعات التى انغمست فى صراع علنى أو سرى مع المجتمع والدولة. وكى لا أستمر فى كيل المديح للكتاب والكاتب عن حق أو حتى أدخل مباشرة فى مغزى الكتاب التى تزيد صفحاته على 350 صفحة يبدأ الكتاب بمفاجأة خروج المساجين ومنهم ماهر من الزنازين ليجدوا مشايخ الجماعة الذين كانوا يعرفون أسماءهم ويسمعون عنهم ويجلونهم، ووصل الأمر عند البعض منهم إلى حد القداسة، لأنهم كُتاب أبحاث الجماعة وهم الذين يحركون الأحداث ومنهم كرم زهدى، وناجح إبراهيم، وعصام دربالة، وعاصم عبد الماجد، وصفوت عبد الغنى، جاءوا ليقدموا ويروجوا الإعلان لمبادرة المراجعات عن العنف. ونلتقط هذا المشهد السريع والدال الذى جرى مع ظهور هؤلاء المشايخ «هوى أحدنا على قدم الشيخ ناجح إبراهيم ليقبلها، فصرخ المأمور إيه اللى بيحصل دا، يا ناس حرام عليكم، هو دا اللى ضيعكم". مشهد آخر وإن كان فى فترة زمنية سابقة، عندما كان فرغلى طالبًا بأحد مدارس مدينة ملوى بالمنيا، وانضم كغيره من أبناء الطبقة الفقيرة والمهمشة الذين لا يملكون أجرًا وثمنًا للدروس الخصوصية الباهظة التكاليف إلى الالتحاق بفصول التقوية بالمصلى الصغير، ومن ثم الارتماء فى أحضان الجماعات الإسلامية التى دأبت بعد ذلك على الاستعراض بجلاليبهم القصيرة ولحاهم التى تملأ وجوههم فى شوارع المدينة، حتى كانت مرة اهتز الشارع من حولهم ليس من أناشيدهم التى اشتكى منها الجميع، لكن من قوات الأمن التى وصلت، ونقرأ نص كلماته «لا تعرف من الذى أرشدهم عن مكاننا، ولا كيف قفزنا من الدور الثانى وكنا حوالى سبعة أفراد، جرينا فى الشوارع المجاورة الملتوية مخبر واحد مازلت أذكر ملامحه، هو الوحيد الذى صمم أن يتبعنا ويواصل الجرى وراءنا، كادت قدماه تلاصقان أقدامنا لم يبق فى مواجهتنا سوى حارة ضيقة، دخلناها وكانت الحارة مسدودة، فأدركنا أنه لا محالة سيتم القبض، أقله على أحدنا، نظر إلينا المخير قائلًا: والله يا بنى نقدر نمسكم، ولكن هنسيبكم علشان أهلكم.. يا بنى سيبكم من اللى بتعملوه، وخلوا بالكم من مذاكرتكم.. بعد يوم أو يومين كان لقاء الثلاثاء بالمنيا، وكان يحاضر فيه أحد الدعاة من الجماعة، ذهبنا قبل الصلاة للمغرب ووقفنا أمام المسجد، كان كل شىء تحت أعين الأجهزة الأمنية التى ترقب المخارج والمداخل فوجئنا بشاب يجرى ويستغيث من المخبرين الذين يجرون وراءه وينادى: الحقنى يا شيخ على عبد الفتاح، هب البعض لنجدته، عاد المخبرون أدراجهم إلى الوراء، لحق الإخوة بأحدهم إنه المخبر نفسه، لم يتركوه حتى يخلصوا الأخ، ضربه أحدهم بمطواة قرن غزال، ولم يترك الرجل حتى أخذ ينزف دمًا. وعلى كثرة ودلالة ما يمتلئ به الكتاب الذى يستحق التوقف عنده.. إلا أننى سأتوقف مليًا عند أحداث مدينة أسيوط عام 1981 وأنقلها كما أوردها ماهر فرغلى بالتفصيل وهى الأحداث التى أعقبت مقتل الرئيس السادات التى قادها على الشريف وعاصم عبد الماجد، بدأت أحداث مدينة أسيوط فى حوالى الساعة 3 صباحًا يوم 8 أكتوبر 1981، حيث كانت دورية مرور ليلية تقوم بعملها المعتاد بمدينة أسيوط فى عيد الأضحى، وقد ضبطت هذه الدورية ثلاثة رجال كانوا ضمن مجموعة تركب سيارة ربع نقل، حيث اشتبهت الدورية بأنهم من أتباع الجماعات الإسلامية، واقتيد هؤلاء الرجال الثلاثة إلى قسم ثان أسيوط، وأودع الثلاثة حجز القسم بدون مناقشتهم ومعرفة هويتهم أو حتى بدون معرفة أسمائهم، وبعد حوالى ساعة قام أحدهم بالطرق بشدة على باب غرفة الحجز من الداخل يصرخ بصوت عال ليحاول أن يبلغ عما سيحدث ولكن أحدًا لم يستمع إليه.. قبل موعد الصلاة بنصف ساعة انتشرت قوات الأمن وتفرقت على مساجد أسيوط لتحرسها بلا سلاح، حتى لا تستفز المصلين، دخلت مديرية الأمن من ضباطها وجنودها، وفى الساعة السادسة صباحًا وقفت سيارة بيجو 404 لونها الأصلى أبيض تم طليها طليًا رديئًا باللون الأزرق ورقم لوحتها 12600 ملاكى القاهرة مكتوبة باليد، وسيارة أخرى فيات 125 جديدة تحمل رقم 1172 ملاكى سوهاج أمام مبنى مديرية الأمن، ونزل من السيارتين ثمانية أفراد مسلحين وفتحوا نيران أسلحتهم الآلية على جنود الحراسة، ولم تتح لهم الرد بإطلاق النار من المفاجأة وسقط الملازم أول أحمد وحيد عند مدخل المديرية ووجدوا العميد شكرى رياض مساعد المدير مرتديًا بيجامة فى استراحة المديرية فأردوه والرائد حسن الكردى و16 سائقًا و32 خدمة مسلحين بالرشاشات، واتخذ شباب الجماعة المسلحون مواقع فوق سطح المبنى واستولوا على 3 بندقية سلاح ومدفعين من طراز برن، وفى لحظة الهجوم نفسها كانت هناك سيارات تجوب شوارع المدينة تحمل مجموعات مسلحة وتطلق النار على جنود الحراسة وعلى عجلات وسيارات رجال الشرطة، وفى الوقت نفسه اتجهت مجموعة إلى مبنى مركز شرطة قسم ثان فى شرق أسيوط لاحتلاله كان فيه 174 جنديًا و30 ضابطًا ومجموعة أخرى اتجهت إلى مركز شرطة قسم أول فى غرب أسيوط لاحتلاله وكان فيه 112 جنديًا و4 ضباط، وقسم مباحث التموين كان فيه 114 جنديًا و3 ضباط.. وبعد أن انتهت مهمتهم هناك انطلقوا إلى مبنى المديرية حيث أصيب عاصم عبد الماجد بثلاثة أعيرة نارية بركبته اليسرى والساق اليمنى فعجز عن الحركة وتولى القيادة من بعده على الشريف الذى أصيب بدوره أيضًا بثلاثة رصاصات نفذت اثنتان منهما بالجانب الأيسر، وعندما عجز عن الحركة تمامًا تولى القيادة من بعده فؤاد حنفى الذى رأى خطورة الموقف فانسحب من مبنى المديرية وهرب واستولى على سيارة لورى شرطة وتمكن من نقل زملائه المصابين بداخلها.. فى التوقيت نفسه خرجت مجموعة أخرى بقيادة ناجح عبد الله إبراهيم مكونة من تسعة أفراد توجهوا مترجلين إلى مباحث التموين وأطلقوا النيران على من فى المبنى ثم توجهوا إلى قسم أول أسيوط واستولوا على ما فيه من ذخائر، وهناك أصيب عبد الله وبعض زملائه وعندما رأى ناجح أنهم لا يستطيعون المقاومة هرب بواسطة دراجة بخارية أحضرها له أحمد السيد رجب، وفى التوقيت نفسه استقل كرم زهدى وعصام درباله وغيرهما سيارة فيات 125 وكان السائق خالد حنفى ثم توجهوا إلى منطقة الجمعية الشرعية وانضموا إلى زملائهم وحاول عصام دربالة إلقاء قنبلة فانفجرت به وتناثرت شظاياها فى جسده فنقل إلى السيارة وتوجهوا إلى طريق الغنايم قاصدين إلى الجبل، وشعرت الشرطة هناك بوجودهم فقبض النقيب أحمد جابر مكارم على كرم زهدى وعصام دربالة. وإذا كان قد جرى الانفصال بين الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد فى داخل السجن فى غضون عام 1983، إلا أن الجماعة استمرت فى موقفها المتشدد من نظام الحكم فى مصر، ففى رسالة نشرتها مجلة المرابطون الناطقة بلسان الجماعة فى عدد يوليو 1990 للدكتور ناجح إبراهيم طالب خلالها بضرورة كشف وتعرية النظام العلمانى الحاكم وبيان عدائه للإسلام ومحاربته لأهله وتوضيح أن القنوات الدستورية والسبل القانونية التى تم العمل بها على بعض السذج ليست إلا سرابًا ووهمًا وخداعًا، ولأن كتاب الخروج من بوابات الجحيم - التى تفتحها وتحرسها وتمسك مفاتيحها جماعة الإخوان - ملىء بالأحداث والمشاهدات الشخصية التى مر بها المؤلف وعانى منها.. والذى أعتقد أنه فى أول إعادة نشر له فى طبعة جديدة، سيضيف له الكثير والخطير بعد كل الأحداث الأخيرة التى غيرت الخريطة والمواقف، وأظن أنها ستكون أكثر شجاعة وجرأة وصراحة مما سطره من قبل، ولن يقف رأيه عند قوله إن الجماعة الإسلامية كهيئة ومؤسسة ترددت أن تؤيد الثورة وأن تقف إلى جوارها وموقع الجماعة الذى يعبر عن رأيها شاهد على ذلك، كما أن قيادات الجماعة لم تظهر إلا بعد الأسبوع الأول من الثورة فى التحرير، وعبر أحد القادة للجماعة عن الموقف من الثورة فى مقال بعنوان «ارحموا عزيز قوم ذل».. وأصبحت التحولات للجماعة خارجة عن منطق الفهم بعد خروج عبود الزمر، وهجمت الجماعة على مساجدها القديمة وطفت القيادات إلى سطح الإعلام وأقيمت المؤتمرات العارمة فى كل مكان للتهنئة بنجاح الثورة، ثم فجأة أراد شباب الجماعة إعادة الهيكلة لها وأراد الجيل الأوسط من الجماعة تغيير القيادات التى ارتبطت تاريخيًا بعملية المراجعات وحاولوا اختيار القيادات وفق شورى حقيقية وأن يعيدوا تأسيس الجماعة وانطلاقتها من جديد فى ظل السياق الثورى الذى تعيشه البلاد، ومختلفة عن تلك التى تأسست عليها الجماعة الإسلامية فى المرة الأولى، وبالفعل قامت الجماعة بإجراء انتخابات لم يحضرها كل الأفراد ولكنها فى النهاية أسفرت عن إقالة رئيس مجلس شورى الجماعة كرم زهدى صاحب الدور الرئيسى لمبادرة وقف العنف لمصلحة شخصيات محسوبة على الجناح الأشد داخل الجماعة الذى لا يزال يحتفظ ببعض ثوابته القديمة مثل تكفير الحاكم المستبد مثل عاصم عبد الماجد وعبود الزمر وعصام دربالة الذى أصبح الرئيس العام للجماعة، كما أسفرت عن استقالة ناجح إبراهيم مهندس وقف العنف والمراجعات من كل مناصبه وسؤال أخير لا أستطيع منع نفسى من التفكير فيه وتوجيهه وهو هل يقرأ رجال الأمن والمسئولين عن متابعة والتعامل مع مثل هذه الجماعات هذه الكتب والكتابات وهل يطلعون على ما بها من تفاصيل ويستفيدون منها؟!