الجغرافيا السياسية تتعدى حدود الأطلس الملونة ورسوم الخرائط وكتب الرحلات وهى وإن كانت تعتبر اللون الأصفر لا يعبر عن مساحات الصحارى التى تغمر قارات العالم الست – فقط - بل هى شمس الحقائق الساطعة التى ترسم الحدود بين الدول بلون البشرة ودم البشر بطعم المصالح والصراعات.. ويأتى دور التاريخ ليثبت الزمان ويعطى روحاً للمكان.. وهنا سرعان ما ندرك أن لبعض الزعماء العظام خاصية نفخ الروح فى بنية الجسد الجغرافى.. ويتجسد لنا نيلسون مانديلا (95 عاماً) ذلك الشهيد الحى لقارتنا الأفريقية ليبعث حياة جديدة للقارة السوداء وليكسبها الحدود الممزوجة بخطوط الحكمة ونقاوة القديسين وصلابة الجنود وعزائم الرجال ويلخص مشوار (الزعيم) الجنوب أفريقى (مانديلا) كل ما سبق فى أسطر قليلة تكتب تاريخ الصراع الإنسانى الطويل الذى خاضه سجيناً وحراً وعلى فراش المرض ضد العنصرية والعبودية البغيضة وكأنه ملاك حارس بعثه الله ليجعلنا نستنشق عبير الحرية. فقد عشق مانديلا الحرية التى قال عنها «الحرية لا يمكن أن تتجزأ، فالمرء إما أن يكون حراً أو لا يكون حراً»، وقد حولته قصة نضاله وسجنه الطويل ليكون أيقونة لثوار ومناضلى العالم الحر ورمزا لمقاومة كافة أنواع الظلم والاستبداد ومناهضة التمييز العنصرى الذى عانى منه وطنه جنوب أفريقيا، وأيقظ بكفاحه الوطنى ضمائر العالم أجمع.. فهو ابن لزعيم قبيلة ( ترانسكاى) تم عزل والده عن منصبه لرفضه تنفيذ أوامر الحاكم الانجليزى، وأعلن أنه ملتزم بتقاليد قبيلته وغير ملتزم بقوانين ملكة انجلترا ولهذا أصدر الحاكم الانجليزى قراراً بعزله ومصادرة أراضيه وممتلكاته وعرف مانديلا حياة الفقر والعوز وهو فى سن التاسعة، وعمل بالرعى بعد أن فقد والده ثروته ووفاته متأثراً بمرض السل نتيجة لفقره ويتم ترحيله ليستكمل تعليمه فى مدارس الإرسالية وهناك اختاروا له اسما إنجليزياً هو نيلسون لأن الأساتذة البيض كانوا يجدون صعوبة فى نطق الأسماء الأفريقية، وتسببت شخصيته الرافضة للعبودية فى تعثر مشواره التعليمى وتعرضه للسجن نتيجة لانضمامه لكل الحركات الرافضة للظلم و التمييز العنصرى والذى جعل من الأقلية البيضاء التى لا يتجاوز عددها 5 ملايين فرد تتحكم فى مصائر 27 مليون أفريقى ملون هم عدد سكان جنوب أفريقيا. بعد طرده من الجامعة، اضطر للعمل حارساً ليلياً حتى يواصل تعليمه بالمراسلة ونجح فى دراسة المحاماة وانضم لرفيقه فى الكفاح أوليفر تامبو ليعملا معاً للدفاع عن المظلومين الأفارقة ضد تعنت الأقلية البيضاء التى تفننت فى إصدار العديد من القوانين الجائرة لتخرس كافة الأصوات المطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية. وعندما اكتشف مانديلا عجزه عن التصدى للظلم بشكل سلمى قرر الانضمام لحزب المجلس الوطنى الأفريقى المعارض للتمييز العنصرى وقام بتشكيل مجموعات للمقاومة السرية المسلحة. يقول مانديلا إنه يندم على هذه الفترة من حياته لأنه تأثر بأسلوب المهاتما غاندى السلمى فى المقاومة، واتخذ قراره الشجاع بالحوار مع العدو متجاهلاً النقد الذى تعرض له من عائلته وأصدقائه، وقد أسهمت هذه المرونة والشجاعة فى تحمله لسنوات سجنه التى استمرت لأكثر من 10 آلاف يوم بإرادة لا تلين، وتم الإفراج عنه عام 1990 استجابة للدعوات العالمية المطالبة بالإفراج عنه بعد أن أصبح رمزاً للمقاومة التى لا تلين، وأصبح مانديلا أول رئيس أسود منتخب لجنوب أفريقيا ونال أكثر من 695 جائزة عالمية متضمنة جائزة نوبل للسلام بالإضافة ل 115 درجة فخرية، وإطلاق اسمه 85 مرة على شوارع وميادين وكبارى وتشييد 95 نصبا وتمثالا تذكاريا تخليداً له.