تعود بى الذكريات إلى فترة ما قبل حرب أكتوبر ثم العبور العظيم لقواتنا المسلحة وتحقيق نصر كان مستحيلا واستعادة الأراضى التى احتلتها إسرائيل ثم استعادة القوات المسلحة المصرية كرامتها وكرامة مصر بل الأمة العربية جميعها ولما كانت تلك الفترة وأعنى بها منذ 67 وحتى 73 فترة فارقة فى تاريخ مصر بمؤسساتها الأمنية والسيادية وقواتها المسلحة. فقد أعادت هذه الفترة من الصراع العربى الإسرائيلى بأسبابها ونتائجها تشكيل قوى الصراع فى الشرق الأوسط والتى ترتب عليها أبعاد سياسية واقتصادية أثرت سلبا وإيجابا على نفوذ القوى العالمية فى المنطقة وظهور محاور وتجمعات حاولت البحث لها عن أدوار مؤثرة لها من خلال تحالفات مع قوى أخرى آثرت الصراعات السياسية انشقاقها واستقلالها. ولقد تحمل جيل هذه الفترة خاصة العاملين فى القوات المسلحة المصرية وأجهزة المخابرات العامة والحربية العاملة فى مجال الحصول على المعلومات عن العدو (إسرائيل) ضغوطا نفسية ومعنوية تفوق قدرة البشر لإعادة بناء القوات المسلحة وقاعدة المعلومات عنه ومكافحة التجسس لمنع العدو من الحصول على المعلومات عن مصر وخاصة القوات المسلحة. وقد كان من الدروس المستفادة رصد أوجه القصور التى برزت فى قطاع المعلومات العسكرية عن إسرائيل ومكافحة تجسسها وأنه من الأسباب الحقيقية لنكبة سنة 1967. فقد برز قصور المعلومات الحقيقية عن العدو فى جميع المجالات والتى لو كانت قد توافرت فى ذلك الوقت لما كانت القيادة السياسية قد غامرت فى أية لحظة بالدفع بقواتها المسلحة للصدام غير المتكافئ مع العدو، وأقصى ما يمكن عمله لو اضطرت التهديد بالصدام دون استمراره لأن ذلك يعتبر نوعا من الانتحار السياسى والعسكرى للنظام المصرى والذى كان يتمتع بالقدرة على تقدير الموقف الملائم لتطور الأحداث. وبناءً على ما سبق ومدى أهمية بناء قاعدة من المعلومات العسكرية عن إسرائيل بالدرجة الأولى بالإضافة إلى مقاومة تجسس العدو على كل المجالات المصرية، خاصة المعلومات العسكرية عن القوات المصرية فإنه قد آن الأوان لإلقاء الضوء على دور المخابرات العامة المصرية فى هذا الصراع والمسئولة بحكم واجباتها واختصاصاتها عن تغطية العمق الاستراتيجى للعدو داخل حدوده عسكريًا وسياسيًا واقتصاديا واجتماعيًا بالإضافة إلى مسئولياتها الأساسية أيضا بدون شريك آخر فى الدولة فى مقاومة تجسس العدو على مصر باعتباره محور الصراع العربى الإسرائيلى والذى منه تنطلق جميع الأنشطة الإسرائيلية المضادة للدول العربية. ولما كانت الجاسوسية إحدى الوسائل المهمة والمعقدة للحصول على المعلومات ذات الصفة السرية العالية (سرى جدا - سرى للغاية) تمشيا مع الثوابت أنه من يملك المعلومة فهو القادر على تحقيق أهدافه والتعامل مع الفعل دون انتظار رده على جميع المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية خاصة أنه فى ظل المواجهات العسكرية تحرص جميع الدول على الحصول على المعلومات العسكرية عن الدول المعادية والصديقة ويعتبر ذلك عملًا أساسيًا لأجهزة المخابرات المختلفة طبقا للمستوى التنظيمى الذى تعمل عليه. ويتولى جهاز الموساد الإسرائيلى مهمة الحصول على المعلومات عن الدول العربية خاصة مصر وله نشاط محموم ضدها للحصول على المعلومات عنها باعتبارها الدولة القادرة على التصدى للمشروع الصهيونى فى منطقة الشرق الأوسط وتقف حائلا كحائط صد ضد انتشار خطة الاقتصاد الإقليمى فى المنطقة. ولتحقيق هذا الهدف فإن جهاز المخابرات الإسرائيلى متمثلا فى الموساد الإسرائيلى فإنه يعمل على تجنيد شبكة من العملاء له لتغطية احتياجات إسرائيل عن الموقف العسكرى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى لمصر والدول العربية مع التركيز على مصر فى ذلك الوقت عسكريًا باعتبارها القوة العسكرية القادرة على الإخلال بالتوازن العسكرى بين إسرائيل والدول العربية بما تملكه من إمكانات وقدرات عسكرية. ولخدمة هذا المجال فلقد كان تجنيد هبة عبد الرحمن سليم للعمل لصالح إسرائيل ضد مصر أحد الإنجازات المهمة وأفضلها على الإطلاق لجهاز الموساد الإسرائيلى منذ بداية الصراع العربى الإسرائيلى بعد نكسة 1967 حيث تسببت هبة سليم فى تكبيد القوات المسلحة المصرية خسائر فادحة فى الأفراد والمعدات فى حرب الاستنزاف وحرمان مصر من مصادر مهمة للمعلومات كانت تمارسها مصر داخل سيناء خاصة فى المنطقة شرق تمادا والمليز فى نطاق التصدى الإسرائيلى من خلال مجموعات استطلاع خلف خطوط العدو، بالإضافة إلى أنها لو ظلت مستمرة فى العمل دون كشفها والقبض عليها ما كانت مصر قد حققت المفاجأة لإسرائيل فى حرب 1973 وما يترتب عليها من سلبيات فى إدارة المعركة مع إسرائيل. ونظرا لأهمية قضية تجسس هبة سليم لصالح جهاز المخابرات الإسرائيلى ضد مصر ونجاح المخابرات المصرية فى كشفها والقبض عليها فى الوقت المناسب فإننا سنستعرض هذه القضية بالتفصيل فى حلقات عن تطورها لأهميتها الفائقة فى عالم الجاسوسية ضد مصر علما بأن هذه القضية وتطوراتها تعتبر من قضايا flash pack (فلاش باك) بالإضافة إلى ما سبق فلقد تداخلت فى هذه القضية منذ بدايتها وحددت لمجموعة مكافحة التجسس بداية العمل فيها وتابعتها حتى تم القبض على (ف. أ) أولا وهو الذى حدد الطرف الثانى وهى هبة عبد الرحمن سليم والتى قمت باستجوابها لمدة 40 يوما عايشتها معها على فترات للحصول منها على المعلومات عن إسرائيل من خلال زياراتها المتعددة لها وجولاتها فيها وانطباعاتها انطلاقا من رئاستى للإدارة العسكرية فى مجموعة العمل على إسرائيل فى هيئة المعلومات والتقديرات بالمخابرات العامة المصرية والمسئولة عن بناء قاعدة المعلومات العسكرية عن إسرائيل فى الفترة من بعد نكسة 1967 وحتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979 مرورًا بمعركة العبور 1973. البداية بدأت قضية تجسس هبة عبد الرحمن سليم باكتشاف جهاز مقاومة التجسس بالمخابرات العامة المصرية فى بداية 1971 خطابات بالحبر السرى مرسلة على عنوان تراسل بريدى فى باريس (فرنسا) نجح القسم الفنى فى تحضير المظهر الخاص بالحبر السرى وتم إظهاره وتبين أنه يحتوى على معلومات عسكرية عن القوات المسلحة المصرية ذات صفة عالية جدا من السرية (سرى للغاية) وعلى أثر ذلك فقد قامت مجموعة التحريات بالمخابرات العامة بالتحرى عن عنوان التراسل المرسل عليه الخطابات فى باريس فتبين أنه محل للأنتيكات القديمة يقوم أحد العاملين فيه بتفريغ صندوق البريد المثبت خارج المحل وانقطع الاتصال بمسار الخطاب بعد ذلك وتم تسجيل عنوان التراسل لحجز جميع الخطابات المرسلة عليه لفحصها وحجز جميع الخطابات التى تحتوى على أحبار سرية والسماح بعد ذلك بإرساله على العنوان حتى لا يشك الطرف الآخر فى أى إجراءات خاصة بالخطابات المرسلة على العنوان المذكور. وإزاء الأهمية القصوى لهذه القضية فى ظل الاستعداد للحرب لتحرير الأراضى المحتلة فى سيناء والضفة الغربية والمرتفعات السورية فلقد فرض هذا الموقف سرعة العمل على كشف أطراف هذه القضية وإنهائها نظرا لخطورة المعلومات العسكرية عن القوات المسلحة المصرية وأوضاعها التى تضمنتها الخطابات المرسلة على عنوان التراسل بباريس بالإضافة إلى خطورة حجز بعض الخطابات لإظهارها أو خطورة المعلومات الواردة بها على أمن العملية لاحتمالات شك الطرف المستقبل لهذه الخطابات من حجز بعضها. ومن خلال التعامل الأمنى مع خطابات عنوان التراسل فلقد تكونت لدى جهاز المخابرات العامة (إدارة مقاومة التجسس) مجموعة من الخطابات تحتوى على كمية هائلة من المعلومات العسكرية عن القوات المسلحة المصرية بما تمثله من خطورة قصوى على أمن المعلومات عنها. ولقد كانت المشكلة الرئيسية من أين نبدأ وكيف ومتى خاصة أن أطراف التراسل غير معروفين ولا يوجد ما يدل عليهم واقتصر الموقف على خطابات مرسلة بالحبر السرى على عنوان تراسل غير معروف صادرة من القاهرة بدون عنوان. ولذلك وبعد عدة اجتماعات لفك طلاسم هذا الموقف والتى كنت طرفًا فيها فلقد اقترحت أن نبدأ من طبيعة وسرية المعلومات التى توافرت بالخطابات الصادرة من القاهرة بالحبر السرى حيث إن طبيعتها ودرجة سريتها السرى للغاية تفرض نظام تداول خاصًا بها يختلف عن بقية المعلومات الأخرى حيث يقضى هذا النظام تحديد من له حق الاطلاع على هذه المعلومات من رئيس الهيئة المختصة من خلال نموذج مكاتبة خاص بها ويتم تداولها شخصيا بواسطة أمين المحفوظات المسئول عن حفظ هذه الوثائق فى خزانة وثائق السرى للغاية. ونظرا لأن هذه المعلومات العسكرية ليست متوافرة إلا فى أجهزة القيادة والسيطرة للقوات المسلحة المصرية فإنه كان لزاما أن يتم تعاون جهاز أمن القوات المسلحة (فرع الأمن الحربى) مع إدارة مقاومة التجسس بالمخابرات العامة المصرية لمعرفة وتحديد من لهم حق الاطلاع على هذا المستوى من المعلومات العسكرية ذات صفة السرى للغاية فى أجهزة القيادة والسيطرة للقوات المسلحة المصرية. ولقد تم تحديد سبعة مواقع تتداول هذه المعلومات ثم التركيز على العاملين الأساسيين بهذه المواقع. وكان لزاما وضع هؤلاء المختارين العاملين بها تحت مراقبة مجموعة مقاومة التجسس طوال يوم فترة المراقبة (24 ساعة كاملة) لتغطية أنشطتهم طوال أيام المراقبة وصولا لتحديد من الذى يقوم بتسريب هذه المعلومات العسكرية إلى باريس فى الخطابات السرية وكان من ضمنهم (ف.أ) الذى كان يعمل مديرا لأحد المكاتب فى جهاز القيادة والسيطرة للقوات المسلحة والذى أوصى رئيس فرع الأمن الحربى بالقوات المسلحة المصرية باستبعاده من أية شبهات من هذا القبيل لأنه موثوق فيه جدا ولا يرقى إليه الشك بتاتا إلا أن ذلك لا يدخل فى حسابات عمل المخابرات العامة فى أى مجال خاصة عمليات مقاومة التجسس وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة.