شهدت المدن التركية تظاهرات حاشدة واحتجاجات عنيفة خلال الأيام القليلة الماضية، جعلت من تركيا بؤرة للأحداث وقبلة اتجهت إليها وسائل الإعلام من كافة دول العالم، والتى انقسمت بدورها بين مؤيد ومعارض، فمنهم من اعتبرها انتفاضة شعبية ومنهم من رآها ثورة حقيقة. فقد كشفت الحكومة التركية قبل عدة أسابيع عن مشروع ضخم لتطوير ميدان تقسيم أكبر وأشهر الميادين التركية، والذى تقول الحكومة أنه يهدف إلى إعادة بناء قلعة من العصرالعثمانى قد هدمت، بالإضافة لجعل ذلك الميدان المزدحم أكثر سيولة وملاءمة وأمانًا للمارة بالإضافة إلى إقامة مول تجارى وثقافى عالمى، مما يستلزم اقتلاع ونقل بعض الأشجار من حديقة «جيزى بارك» التاريخية وغرسها بمكان آخر، وحصل المشروع على ثقة نواب البرلمان بما فيهم ممثلو حزب الشعب الجمهورى أبرز أحزاب المعارضة، ولكن حماة البيئة وبعضًا من النشطاء اليساريين حاولوا ايقاف تنفيذ المشروع عن طريق اللجوء إلى القضاء، الذى اعترض بدوره على جزء بسيط من المشروع وسمح بتنفيذ الباقى، ما دفع مجموعة تقدر ب150 فردا للاعتصام بحديقة جيزى بارك اعتراضا على قطع الاشجار، وفى اليوم الرابع للاعتصام قررت الشرطة فض الاعتصام بالقوة مستخدمة قنابل الغاز وخراطيم المياه والهراوات، مما دفع أحزاب وأنصار المعارضة للنزول إلى الشوارع والانضمام إلى المعتصمين، وأدى ذلك إلى مصادمات واشتباكات عنيفة وتظاهرات حاشدة شهدتها عدة مدن تركية أخرى كأنقرة وأنطاكيا وأزمير وغيرها. ومع ازدياد الأحداث سخونة وشراسة ارتفع سقف مطالب المتظاهرين من مجرد الحفاظ على الحديقة إلى المطالبة باستقالة أردوغان وحكومته، لتكون تلك الاحتجاجات هى الأكبر والأقوى منذ وصول حزب التنمية والعدالة برئاسة رجب طيب أردوغان إلى سدة الحكم عام 2002. وفى رد فعله حول هذه الأحداث، خرج رئيس الوزراء رجب أردوغان عن هدوئه وحكمته فظهر متحديا المتظاهرين قائلا:«إذا كانت تلك الأحداث تعد تعبيرا عن الرأى وثورة شعبية بمائة ألف فرد، فلدى القدرة على جمع أكثر من مليون فرد من حزبى، وأن الشرعية والمسئولية والسلطة يعطيها الشعب كل أربع سنوات لمن يستحق»، فى إشارة لفوز حزبه فى الانتخابات المتتالية منذ 2002 بأغلبية ساحقة، مشددا بأن الميادين والشوارع لن تترك للمتطرفين يفعلون فيها ما يشاءون. وكانت أحداث تقسيم قد انطلقت بشكل شعبى دون أى تدخل حزبى، وارتفع سقف المطالب مع تطور الاحداث ودون أى ترتيب مسبق ما أعاد إلى الأذهان مشهد بداية الربيع العربى قبل عامين، حتى أن بعض المحللين الأتراك قد شبه ميدان تقسيم بميدان التحرير بالقاهرة أثناء ثورة 25 يناير، فيرى «كمال كليجدار» أحد أبرز رموز المعارضة أن شرارة الربيع العربى قد وصلت إلى الأناضول، وأن من يرى الأحداث على أنها مجرد تظاهرات واحتجاجات من أجل بضع أشجار فإنه مخطئ وواهم، فالأشجار هى الحطب الذى سنشعل به ثورتنا، فهو يرى أن حكومة أردوغان قد تمادت وتكبرت واستبدت، فقامت بالتضييق على الحريات الشخصية وتقليص مظاهر العلمانية فى البلاد والسعى للقضاء عليها من أجل أسلمة الدولة وخلط الدين بالسياسة وهو خطر كبير على حد وصفه، كما زجت حكومة أردوغان بالمئات من الضباط والصحفيين والكتاب العلمانيين فى المعتقلات بحجة التآمر على النظام الديمقراطى وتم فصل الكثير من القضاة وتعيين المتعاطفين مع أيديولوجية الحزب الحاكم مكانهم. ويوافقه الرأى الكاتب والناشط السياسى «آدم تولجا» الذى يرى فى أحداث تقسيم دليل على أن النار كانت تحت الرماد خلال العقد الأخير الذى شهد ترؤس أردوغان وحزبه للحكومة، وأنه حان وقت التغيير قبل أن يورث أردوغان نفسه الحكم عقب انتخابات رئاسة الجمهورية القادمة، والتى ينوى خوضها عقب تغيير دستورى يعطى منصب الرئيس مقاليد الحكم. ورأت مجلة «تايم» الأمريكية أن قضية الحديقة كانت فتيل قنبلة المظالم التى انفجرت فى وجه أردوغان وحكومته، كما أن مؤيدى العلمانية يرون فى إعادة بناء قلعة تعود إلى الحكم العثمانى بوسط اسطنبول رمز لإعادة بناء الدولة على أساس دينى. فى حين أبدى الخبير السياسى «طه أوزهان» اندهاشه من تفاقم الأحداث بصورة سريعة ومبالغ فيها وبشكل غير مبرر، وكذلك اندهاشه من تضخيم وسائل الإعلام المختلفة للأحداث مع العلم أن تركيا تشهد تظاهرات عديدة طوال العام تتطور بعضها إلى مصادمات كالتى وقعت فى عيد العمال الماضى ولكنها سريعا ما تنتهى، مضيفا أن المعارضة وعلى رأسها حزب الشعب الجمهورى - الذى وافق فى وقت سابق على تنفيذ المشروع - قد استغلت خطأ قوات الشرطة فى التعامل مع المظاهرات من أجل التصعيد ضد حزب العدالة والتنمية الذى حقق شعبية غير مسبوقة خلال العقد الأخير فى وقت تتراجع فيه شعبية المعارضة، ويؤكد أوزهان أن حكومة أردوغان لديها من الحكمة والخبرة وكذلك الشعبية الطاغية فى الشارع التركى التى تمكنها من احتواء الأحداث، فضلا عن أنها تمثل شرائح اجتماعية واقتصادية وثقافية واسعة، وما يحدث هو مجرد طفرة اعتراضية من طرف مجموعة من الشباب عديمى الميول السياسية أو الخلفيات الاجتماعية، وسرعان ما ستنتهى التظاهرات. فيما شددت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية أنه ليس هناك وجه للمقارنة بين تظاهرات الربيع العربى، وتلك التى خرجت فى تركيا، مضيفة أن الخطر الذى يواجهه أردوغان هو مبالغة حكومته فى ردة فعلها وتحويل التظاهرة إلى منحى أخطر، فالأحداث هناك تحتاج إلى معاملة بقبضة خفيفة على حد تعبير الصحيفة، كما اتفقت معظم الصحف التركية بمختلف انتماءاتها على أن أحداث تقسيم مجرد مظهر صحى للديمقراطية والتعبير عن الرأى يتكرر كثيرا، إلا أن الشرطة قد أساءت هذه المرة التعامل مع المتظاهرين، مستبعدة احتمالية تطور الأحداث إلى ثورة شعبية.