كأنه لا يكفينا ما نحن فيه.. كأن كل ما نعانيه من هموم ومشاكل وأعباء لا يكفى.. مع أننا لدينا وفرة من هذه الهموم والمشاكل والأعباء! هناك - على سبيل المثال - صراع سياسى محتدم يستخدم فيه الجميع مدفعية التخوين والتكفير الثقيلة فى قصف بعضهم البعض! هناك - على سبيل المثال أيضًا - أزمة اقتصادية طاحنة تحتاج إلى توافق واستقرار وإرادة شعبية وحكومية لتجاوزها.. لكن الجميع يبدو وكأنه لا يرى ولا يسمع وإن كان يتكلم! ثم أزمة القضاء وأزمة مجلس الشورى والانتخابات والدستور والأمن الذى لانكف عن محاربته طول الوقت، ثم نشكو من غيابه.. والأوضاع المقلقة فى سيناء.. وأزمة الكهرباء والنظافة وغيرها من الخدمات.. كل ذلك على سبيل المثال!ويبدو غريبًا أن «كل ذلك» لا يكفينا فننشغل بالبحث عن غيره. خذا مثلًا قضية تهنئة الأقباط بأعيادهم.. لم نسمع عن هذه المشكلة من قبل ولم يتطرق إليها الحديث يومًا.. وفجأة تصبح قضية ومشكلة الساعة.. وتتحول مجاملة عادية بين المسلمين والمسيحيين إلى خلاف فقهى وشرعى.. هل تهنئة الأقباط بأعيادهم حلال أم حرام؟!.. هل يجوز للمسلم أن يهنئ قبطيًا بعيده؟! وتصل الأمور إلى ما هو أبعد عندما يطرح البعض السؤال الصعب: هل من حق الرئيس مرسى أن يهنئ الأقباط بأعيادهم؟! وحسنًا فعلت مؤسسة الرئاسة بالتصريح الذى أطلقه المتحدث الرسمى باسمها والذى أكد من خلاله أن الرئيس محمد مرسى لا ينتظر فتوى ليشارك أو يرسل مندوبين عنه للاحتفال مع الأقباط بعيد القيامة. حسنًا فعلت مؤسسة الرئاسة عندما قال متحدثها الرسمى إن الرئيس هنأ الأقباط بالفعل بعيدهم وأن الرئاسة اعتادت على مدار سنوات على أن تكون ممثلة فى قداس أعياد الأقباط وأن مستوى التمثيل سيعلن فى حينه.. وهو ما معناه أن الرئيس قد يحضر القداس أو يرسل مندوبًا عنه.. ليس من منطلق الحلال والحرام، وإنما من منطلق مشغوليات الرئيس وظروف وقته.. حسناً فعلت مؤسسة الرئاسة لكن ذلك لا ينفى أن التفاصيل مرعبة! *** البداية كانت انتقادات وجهتها الجبهة السلفية الجهادية لأحد قيادات الإخوان لقيامه بتهنئة الأقباط بعيد أحد السعف وبداية أعياد القيامة.. وسمعنا من يقول إن تهنئة الأقباط بأعيادهم الدينية محرم قطعا بلا خلاف لأن فيه إقرارًا بعقيدة أبطلها القرآن الكريم. ومضى قيادى آخر بالمكتب السياسى للجبهة السلفية خطوة أبعد فقال: إن جماعة الإخوان المسلمين دائمًا تحاول مجاملة النصارى وهذه المجاملة غير صحيحة.. وبصفة كلامه فإن المسلم الذى يهنئ النصارى بأعيادهم الدينية.. آثم! ويرد قيادى إخوانى بتصريح مقتضب يقول فيه: تهنئة الأقباط تجوز فى بعض المناسبات ولا تجوز فى البعض! وتدخل هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف على الخط فيفتى عدد من أعضائها بجواز تهنئة الأقباط بأعيادهم. وتدلى دار الإفتاء المصرية بدلوها فيصدر عن أمانة الفتوى بالدار فتوى فحواها أنه يجوز تهنئة غير المسلمين فى عيدهم بألفاظ لا تتعارض مع العقيدة الإسلامية. ويقول مفتى الإخوان كلامًا يعتبره البعض تناقضًا وانقلابًا فقهيًا. مفتى الإخوان سبق له وأن قال فى العام الماضى إن تهنئة الأقباط بأعيادهم (بر.. وإقساط).. لكنه عاد وتراجع فى العالم الحالى وأكد أن تهنئة الأقباط حرام. ويرد مفتى الإخوان على هذا الاتهام فيقول إن تهنئة شركاء الوطن من النصارى فى مناسباتهم وأعيادهم المختلفة من الإحسان الذى أمر الله به.. ومن البر الذى لم ينهنا الله عنه.. طالما لم تكن هذه التهنئة على حساب ديننا.. ولم تشتمل شفاهة أو كتابة على التلفظ بشعارات أو عبارات دينية تتعارض مع مبادئ الإسلام.. ولا على إقرار لهم على دينهم أو رضا بذلك أو مشاركة فى صلواتهم.. إنما هى كلمات من المجاملة العادية التى تعارف عليها الناس.. ولا تحتوى على أى مخالفات. ولا يزال الجدل مستمرًا ولا تزال الأسئلة مطروحة.. تهنئة الأقباط فى أعيادهم حلال.. أم حرام؟!.. وهل يجوز للمسلم أن يهنئ القبطى بأعياده.. وتساؤلات أخرى كثيرة تحمل نفس المعنى وتدور فى نفس الدائرة. ولا يزال إصرارنا على «اختراع» مشاكل وقضايا لا لزوم لها ولا معنى لها فى هذا التوقيت الصعب من مسيرتنا.. لا تزال تصرفاتنا تؤكد أن كل ما نعانيه من هموم وأعباء ومشاكل.. لا يكفينا! *** نظمت حركة علمانيون فى الإسكندرية تظاهرة ليس من أجل إسقاط الحكومة ولا للمطالبة بتنفيذ شعارات ثورة 25 يناير.. عيش وحرية وعدالة اجتماعية.. ولا تعبير عن سيطرة التيار الإسلامى على المشهد السياسى.. ليس من أجل ذلك كله، وإنما سبب التظاهرة هو المطالبة بإلغاء خانة الديانة من بطاقة الرقم القومى.. وذلك من منطلق أن وضع خانة الديانة فى بطاقة الرقم القومى ليس من أمور الدين فى شىء ولا يعد من علامات التقرب إلى الله عند اتباع أى دين.. لكنه يثير روح التمييز والتعصب بين أبناء الوطن الواحد. وجهة نظر صحيحة أم غير صحيحة.. ليس هذا هو المهم، وإنما هو هل هذا هو التوقيت المناسب لإثارة مثل هذه القضية؟!.. هل انتهت كل مشاكلنا ولم يعد باقيا إلا هذه النوعية من المشاكل؟! تظاهرة أخرى قام بها هذه المرة السلفيون أمام دار القضاء العالى.. ليس من أجل تطبيق الشريعة ولا احتجاجا على ممارسات الأمن طبقًا لشكوى بعض قادة السلفيين.. وإنما سبب التظاهرة هو المطالبة بحجب المواقع الإباحية من على شبكة الإنترنت! لا أحد يشجع وجود المواقع الإباحية.. لكن هل هذا هو التوقيت المناسب لإثارة هذه المشكلة؟! ثم مشكلة الضباط الملتحين التى تتصاعد يوما بعد يوم وتتسع دائرة الخلاف حولها.. هل إثارة هذه المشكلة فى هذا التوقيت أمر مناسب؟! *** المفترض أننا جميعًا نسعى للبحث عن حلول ناجحة لمشاكلنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والطائفية.. وحتى الآن لا يبدو أننا قريبون من أى حل.. لكن الغريب أن الأمر يبدو وكأننا نسعى كل يوم لإضافة مشكلة جديدة لمشاكلنا. أين ذهبت عقولنا؟!.. لماذا تغيب عقولنا.. أحيانًا؟!