سؤال افتراضى - والافتراضية وعالمها لم تعد دربًا من الجنون أو العبث- طغى على ذهنى ما أن انتهيت من هذا الكتاب «سر المعبد» الكاشف لموهبة وبراعة مؤلفه، ولحقيقة واقع عاش معنا سنوات طويلة لا نعلم عنه إلا النذر اليسير.والسؤال هو: ماذا لو لم يطرد الخرباوى من جماعة الإخوان؟ أكنا سنقرأ هذه النصوص الإبداعية الرائعة التى فاجأنا بها؟ وهل لو لم تكن جذوره دمشقية أكان سيقدم كل هذه التفاصيل والأحداث بأسمائها الحقيقية وبكل هذه الجرأة دونما مواربة أو تورية أو مراوغة؟ وهل تم بالفعل اختطاف جماعة الإخوان المسلمين من مرونة حسن البنا إلى تشدد سيد قطب؟! ظاهرة جديدة حدثت - ربما للمرة الأولى - بعد صدور كتاب سر المعبد للمحامى الشهير ثروت الخرباوى؛ فما أن يلتقى اثنان معًا حتى يسأل أحدهما الآخر «هل قرأت سر المعبد؟» أم هل اشتريته أو ممكن اقرأه بعدك؟ خاصة وأن الكتاب حقق فى أسابيع قليلة رواجا شديدا، حتى إن طبعته الثانية أيضًا نفدت. وقبل أن ندلف لداخل المعبد لنتجول بين جنباته الثرية بكل مثير وصارم، سنتوقف لنعرف من أين جاء المؤلف بلقبه «الخرباوى»، فقد ظل هذا السؤال يلح علىَّ كلما سمعت باسمه حيث يقول فى كتابه سر المعبد الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين، الصادر عن دار نهضة مصر، إن جده الأكبر برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن على الخرباوى، جاء إلى القاهرة من قرية خربة روحا من دمشق، وكنى بالخرباوى الدمشقى البقاعى، وكان محدثا وأديبا وعروضيا وله عشرات المؤلفات التى حققها العلماء، وبسبب قصيدة شعر نفاه والى مصر إلى بلبيس بالشرقية، فاستقر به المقام فيها ردحا من الزمن، وتزوج بها وأنجب ثلاثة أبناء ذكور، وبعد ذلك كان دائم السفر لتحصيل العلم فى بلاد عدة إلى أن توفى فى دمشق تاركًا أولاده فى بلبيس. ولأن الكتاب يحتوى على 360 صفحة تتحدث عن تجربة ذاتية لشاب نابه دخل جماعة الإخوان المسلمين فى بدايات تفتحه، بسعى حثيث منه للانضواء معهم والائتناس بهم والعمل داخلهم لخدمة الدعوة، ولكن تم طرده منها بعد ذلك إثر محاكمة فريدة فى وقائعها وأحداثها، بعد حياة عمرية طويلة وممتدة، ومن ثم فالذكريات والوقائع أيضًا هائلة وغزيرة خاصة مع ذاكرة لاقطة وحافظة كالتى يتمتع بها ثروت الخرباوى. والميزة الحميدة التى يتمتع بها هذا الكتاب - سر المعبد - عن غيره من الكتب التى خاضت نفس تجربته، وهو الكتابة عن جماعة الإخوان بعد الخروج منها، هى إن ثروت الخرباوى قدم تجربته بلغة أدبية راقية، كشفت عن قدرات إبداعية عالية والتى وظفها فى سرده للأحداث وفى تقطيعاته لها وفى قدرته على الإمساك بانتباه القارئ وإثارة شغفه فى حبكة درامية جذابة ومتقنة وواعية. وكان الشئ المفاجئ والمبهر هو رسمه للشخصيات التى يمتلئ بها كتابه بقلم فنان ومحلل، فلا أظن أن هناك من قدم شكرى مصطفى صاحب القضية الشهيرة بتنظيم الفنية العسكرية ومؤسس تنظيم التكفير والهجرة والمؤسس الثالث لجماعة الإخوان المسلمين، بمثل هذه الصورة الناصعة الوضوح والتى سأحاول تجميعها من بين فئات الصفحات التى كان ينثر أجزاءها حسبما يقتضى قانون الحكى؛ فشكرى مصطفى شاب صغير يعانى من شظف العيش وقسوة الوالد الذى طلق أمه، فعاش فى كنف زوجة الأب يعانى من ضيق الحياة وعنتها مع والده فى أسيوط، فيهرب إلى القاهرة حاملاً بقجة ملابسه، كانت الفترة التى جاء فيها للقاهرة هى تلك الفترة التى أعقبت الإفراج عن سيد قطب قبل منتصف الستينيات، فأتيحت له الفرصة أن يتردد على القطب الذى اعتبره قبلته بل قبلة الإسلام كلها. وكان زوار سيد قطب فى فيلته بضاحية حلوان فى هذه الآونة يجدون شابًا صغيرًا أبيض الوجه، أسود الشعر، له نظرة عميقة متفرسة ووجه غاضب حاد، يفرق شعر رأسه من المنتصف، اقتداء منه برسول الله y، كان هذا الشاب يجلس تحت قدم سيد قطب مثل طلبة العلم فى القرون الأولى، يحمل ورقة وقلما ويدون فيها كل شاردة وواردة من أقوال قطب ولفتاته. وحين تم كشف تنظيم قطب سنة 1956، فر هذا الشاب هاربًا واختبأ فى ضاحية من ضواحى القاهرة عند بعض معارفه من الإخوان، وحلق لحيته وقص شعره، وعمل فى المسجد كمقيم للشعائر ومؤذن للصلاة ولكن تم كشفه والقبض عليه وألقى فى السجن. وفى أحد أيام يوليو 1967 قال لواحد من المجموعة التى ترافقه فى السجن «إن كتب الله لك عمرًا سترانى وأنا أحكم العالم بالإسلام، وسيقول العالم إن شكرى مصطفى هو من ميراث النبوة، وسأملأ أنهار وبحار العالم بدماء الكفار وسأعيد الخلافة، وستكون القدس هى عاصمة الخلافة.. قال العم خليل الزعفرانى بعد ما رأى هذا الضيف الذى جاء به ابن أخيه خالد ليقضى بينهم يومًا أو بعض يوم بإحدى ضواحى الإسكندرية بإعتباره شيخه الجديد وكان ذا وجه بيضاوى وشعر مفروق من المنتصف ونظرات عينيه العميقة الغائرة ولحيته الكثة، قال العم خليل هذا الشاب الذى استضافه ابن عم له سحنة لا أستريح لها، خذ حذرك يابنى من هذا الشاب فما فى قلبه من شر يبدو واضحًا فى وجهه وأنا قراء وجوه، وكان هو شكرى مصطفى الذى تلبسته فكرة أن الإسلام غاب عن الدنيا، وإن من اتبعه ودخل فى زمرته فقد أصبح مسلما حقا، وأوحى له شيطانه أنه هو الذى سيعيد الإسلام للعالم مرة أخرى، ووقع فى يقينه إن الله سيعيد به قصة الغلام والراهب، وعاش على يقين إنه المهدى المنتظر الذى سيملأ الدنيا سلاما؛ فإذا ما وصلنا إلى عام 1977 تسربل شكرى بزمن الدعوة السرية والعزلة عن المجتمع الجاهل والكافر، وأوصى أصحابه بأن يخفوا إسلامهم ويدعوهم للهجرة لبعض الدول الأخرى، إلى حين.. ثم رأى أن يضع أول بصمة لدولته التى لن تقوم إلا بأن يهرق دمًا على أعتابها، والدم الذى سيهرقه هو دم الكافر الذى يحارب الإسلام وبدأها بقتل الشيخ الذهبى وزير الأوقاف الذى حارب أفكار شكرى حيث خطفه وقيده وقتله أحد رجاله بإطلاق رصاصة على رأس الشيخ. وظهرت براعة المحامى الشهير ثروت الخرباوى أكثر وأوضح فى تقديمه لشخصية الشيخ الحكيم، هذا الذى التقاه مصادفة فى المسجد وأنس إليه، وقال له دون أية مقدمات إنه كان فى جماعة الإخوان وتركهم منذ شهور، وإذا بالشيخ الحكيم يناديه باسمه ويقول له لقد نسيتنى أنت.. لنعرف منه إنه مدرس اللغة العربية الذى درس له فى مدرسة جمال عبدالناصر القومية بميدان تريومف بمصر الجديدة الأستاذ أحمد إبراهيم أبوغالى وكان مسجونًا لانتمائه للإخوان فى الستينيات حتى عام 1971، وبعد لقاءات بينهما لا تعد ولا تحصى فى منزل الشيخ يعرف الخرباوى أسرارًا هائلة ويقرأ وثائق شديدة الخطورة والسرية منها: كيف أن الغلام النحيل حسن البنا كان يسهر وكأنه هو المهدى المنتظر، وكأنه هو الذى أرسله الله على رأس مائة عام كى يجدد للأمة أمر دينها، ولذا انقطع عن استكمال حفظ القرآن، إذ توقف عن هذا وهو فى الرابعة عشرة من عمره، لأنه وجد أن طريق العلم والفقه ليس هو طريقه، ولكن طريقه هو صناعة الرجال؛ فرق قلب الشاب حسن البنا ما فعله كمال أتاتورك عندما فرق أوتار الخلافة الإسلامية، فأخذ يجوب أروقة العلماء ويجلس إليهم ويبثهم مشاعره ويحتد على بعضهم أحيانا ويبكى بين أيديهم أحيانا أخرى. وكان من تصاريف القدر أن التقى حسن البنا بالشيخين رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، وعن طريقهما عرف البنا تجربة عبدالعزيز آل سعود الذى يعمل على توحيد الجزيرة العربية تحت اسم المملكة العربية السعودية بواسطة جيوشه الذين عرفوا باسم الإخوان، وكان حلم البنا بعد أن اطلع على نظام هذا الجيش وتاريخه وشعاره أن يكون هو قائد الجيش الذى يقود الأمة إلى استعادة الخلافة والوصول إلى أستاذية العالم؛ ومنها أيضًا - الأسرار والخفايا - هذه المعلومة التى تحكى عن جملة شديدة الغرابة جاءت فى كتاب ملامح الحق للشيخ محمد الغزالى فى طبعة قديمة قال فيها: إن المرشد الثانى حسن الهضيبى كان ماسونيا: وقد قام الشيخ الغزالى بحذف هذه العبارة من الطبعات الجديدة للكتاب. أما الأغرب فهو مجموعة المقالات التى كتبها الأستاذ سيد قطب فى جريدة التاج المصرى وهى لسان حال المحفل الماسونى المصرى والتى كانت لا تسمح لأحد أن يكتب فيها من خارج جمعية الماسون. وإذا كانت هذه بعض الأسرار التى استوقفت ثروت الخرباوى وهو يفتش عن طبيعة التنظيم الذى قضى فيه عمره، فإننى سأتوقف فقط عند هذه المعلومة التى أراها دالة على حقائق وعلاقات وعوالم تستدعى إعادة الفهم والتقييم للعديد من الأمور والشخصيات التى مرت بنا طوال السنوات السابقة، حيث يقول: فى شتاء 1989 دعانى أخ من الإخوان المقربين إلى قلبى اسمه عادل السودانى لحضور تدريبات رياضية فى نادى الشمس، يعقبها مباراة فى كرة القدم، استجبت لدعوته، وانتظمت فى هذه التدريبات وكان معى مجموعة من الإخوان وبعض أفراد لم أكن أعلم هل ينتمون للإخوان أم لا، ولم تكن هذه التدريبات عادية، فقد كانت أبواب نادى الشمس تفتح لنا بعد منتصف الليل، بعد أن ينصرف كل رواد النادى، وكان الذى يفتح لنا النادى بعد إغلاقه، أحد الأعضاء البارزين فى النادى وهو المرحوم أشرف فوزى أحد أبطال افريقيا فى الجودو، وكان يقوم بأعمال مدير أمن النادى، وكنا نجرى تدريبات رياضية متنوعة منها السباحة وكان أشرف فوزى يعطى تعليماته لمشرف حمام السباحة بتسخين ماء الحمام، إذ أننا كنا فى شهر الشتاء، وظللت مشتركا معهم على هذه التدريبات فترة إلى أن وجدت أنهم أصبحوا يذهبون دون أن يخبرونى، فلم أدر وقتها سبب استبعادى.. ولنترك الأسئلة الافتراضية التى بدأنا بها جانبا، ونسأل السؤال الحقيقى: هل استطعنا حقا أن نتجول داخل المعبد أو أن نلقى الضوء على بعض كنوزه، فالحقيقة تؤكد أن عشرات العروض والمحاولات لفعل ذلك مهما بلغت درجة الكفاءة والإتقان لا تكفى ولا تغنى، لأن الكنز الحقيقى والمكسب العملى فى قراءة هذا الكتاب بنفسك واستيعاب كل ما به من رسائل.