يحكى أننا نحن الحمير كنا فى قديم الزمان نتحدث بلغة كالتى تتحدثون بها أنتم البشر. كانت لنا لغة خاصة بنا. ويحكى أننا لم نكن ننهق فى قديم الزمان كما نحن عليه الآن. وتعلمون أننا الآن نعبر عن رغباتنا، وأحاسيسنا، ومشاعرنا، وأفراحنا، وأتراحنا فيما بيننا بواسطة النهيق كما نخاطبكم يا سادتنا البشر، ما هو النهيق؟.. النهيق هو إصدار صوت مؤلف من حرفين بشكل متكرر: «ه..ا، ه...ااا» هذا هو النهيق.. تقلصت لغتنا الغنية تلك، وتقلصت إلى أن صارت كلمة واحدة مؤلفة من حرفين. يعود ربط ألسنتنا نحن الحمير إلى حادثة قديمة جدا.. يحكى أن هنالك حمارا عجوزا من الجيل القديم.. فى يوم من تلك الأيام كان يرعى هذا الحمار العجوز فى البرارى وحده، وكان يغنى الأغنيات الحميرية فى أثناء الرعى، فى لحظة من تلك اللحظات تناهت إلى أنفه رائحة.. إنها رائحة ليست طيبة، إنها رائحة ذئب. رفع الحمار ابن الجيل القديم أنفه إلى الأعلى، وبدأ يستنشق بعمق، الجو يحمل رائحة ذئب حادة.. سلى العجوز نفسه بقوله: لا يا روحى، إنه ليس ذئبا. وتابع الرعى.. ولكن رائحة الذئب ازدادت حدة. سلى الحمار ابن الجيل القديم نفسه قائلا: - إنه ليس ذئبا.. إنه ليس ذئبا.. ولكن رائحة الذئب تزداد بالتدريج. أما الحمار العجوز فهو خائف من جهة، ومتظاهر باللامبالاة من جهة أخرى، ويقول لنفسه: ليس ذئبا.. لماذا سيأتى الذئب إلى هنا؟، ولم سيلقانى؟ بينما كان يسلى نفسه هكذا، فجأة تناهى إلى أذنيه صوت.. ليس صوتا عذبا، إنه صوت ذئب.. شنّف الحمار العجوز أذنيه رافعا إياهما إلى أعلى.. نعم إنه صوت ذئب. ولأنه غير راض بمجىء الذئب، تابع قضم العشب وهو يقول: لا يا روحى.. هذا الصوت ليس صوت ذئب.. يتهيأ لى.. اقترب كثيرا جدا من ذلك الصوت المخيف، والحمار يقول لنفسه: لا، لا... أتمنى ألا يكون ذئبا.. أما عند الذئب عمل آخر ليأتى إلى هنا؟! من ناحية أخرى سيطر الرعب على قلبه، وبدأ يلتفت فيما حوله.. نظر.. وإذا بذئب يظهر بين الضباب والدخان على قمة الجبل المقابل، قال: ه.. ااا، ما أراه ليس ذئبا، لا بد أنه شىء آخر. ازداد خوفه عندما رأى الذئب يعدو خلف الأشجار، ولكن لأنه غير راغب فى مجىء الذئب،خدع نفسه قائلا: - ليس ذئبا، إن شاء الله لا يكون ذئبا. أما بقى له مكان آخر ليجد هذا المكان ويأتى إلى هنا؟.. لم تعد عيناى سليمتين، لهذا السبب فإننى ظننت أن خيال الأشجار ذئب. اقترب الذئب أكثر، عندما صارت المسافة بينهما خمسين خطوة حميرية، سلى نفسه قائلا: جعل الله بمشيئته هذا المخلوق الذى أراه أمامى ليس ذئبا.. لم سيكون ذئبا يا روحي.. لعله جمل أو فيل، ولعله شيئا آخر.. ويمكن ألا يكون شيئا البتة. اقترب الذئب مكشرا عن أنيابه، وعندما بقى بينهما عدة خطوات، قال الحمار العجوز: - أنا أعرف أن هذا القادم ليس ذئبا، نعم إنه ليس ذئبا، ولكن ليس سيئا أن أبتعد عن هذا المكان قليلا.. بدأ المسير.. نظر خلفه فوجد أن الذئب يتبعه مكشرا عن أنيابه، مسيلا لعابه، بدأ الحمار ابن الجيل القديم بالدعاء، والتوسل لربه: - يا ربى اجعل هذا الذى يتبعنى ليس ذئبا حتى ولو كان كذلك.. إنه ليس ذئبا يا روحى، وكل خوفى لا معنى له. بدأ الحمار العجوز يعدو، وركض الذئب خلفه. ركض الحمار بكل ما تقوى عليه قوائمه، وهو يقول فى داخله: إنه ليس ذئبا حتى ولو كان كذلك.. اللهم لا تجعله ذئبا.. لم سيكون ذئبا يا روحى؟ هرب الحمار وتبعه الذئب، عندما شعر الحمار بأنفاس الذئب الساخنة تحت ذيله. قال لنفسه: أنا أراهن أن هذا ليس ذئبا.. لا يمكن أن يكون المخلوق الذى أشعر بأنفاسه تحت ذيلى ذئبا.. عندما لامس فم الذئب الرطب ما بين فخذى الحمار، انهار الحمار تماما، نظر خلفه، فوجد الذئب يهم بالقفز عليه.. تجمد الحمار تحت تأثير نظرات الذئب الحادة فما عاد يستطيع أن يخطو خطوة واحدة، فأغمض عينيه كى لا يرى الذئب. وبدأ يتأتئ بالقول: إنه ليس ذئبا يا روحى.. إنه ليس ذئبا بمشيئة الله.. لم سيكون ذئبا؟ عض الذئب الشرس الجائع بأنيابه الحادة الحمار من فخذه، وقضم قطعة كبيرة.. ارتبط لسان الحمار وهو يهوى على الأرض ألما.. ومن خوفه نسى اللغة الحميرية، نهشه الذئب من رقبته وصدره، وبدأ ينفر الدم من جميع أطراف الحمار، وعندئذ بدأ الحمار يصرخ: ه..ااا، إنه.. ذئب، ه،..ااا.. الذئب يمزقه، وهو بسبب ارتباط لسانه لا يصرخ إلا: هاااا.. هوووو.. هاااا، ه...، هاااا.. سمعت الحمير كلها صراخ الحمار من الجيل القديم بآخر كلماته، حيث كانت تردد أصداءها صخور الجبل، وهو يتمزق بين أنياب الذئب: هاااا، هاااا، هاااا.. وهكذا يقال إننا نحن الحمير نسينا المخاطبة والمحادثة منذ ذلك اليوم، وبدأنا نعبر عن أفكارنا كلها بواسطة النهيق، ولو لم يخدع نفسه ذلك الحمار ابن الجبل القديم حتى وصل الخطر إلى تحت ذيله، كنا سنبقى على معرفة بالكلام. آه منا نحن الحمير.. آه منا نحن الحمير.. هاااا.. هاااا.. هاااا.