الجاسوسية فن... والجاسوسية المضادة أيضاً فن ... ومن أهم وأخطر فنون الجاسوسية المضادة، ضرب علاقة المهابة والاحترام، بين الشعب وجهاز مخابراته، مما يقطع الصلة بينهما، ويجعل المواطن يشعر، وكأن جهاز مخابراته، الذى يفترض منه أن يحمى أمنه، ويصون أسراره، ويكون درعاً دائماً فى وجه أعدائه، وسيفاً يحول بينهم وبين أمن الوطن وسلامته، هو جهاز فاسد، وخائن، على الرغم من أن هذا مستحيل عملياً؛ هذا لأن فساد جهاز المخابرات لا يعنى ضعف المخابرات فحسب، ولكنه يعنى انهيار كل كيان الدولة تدريجياً، حتى لا يعود لها كيان أو وجود، وسط عالم متصارع، متلاطم الأمواج فى عنف، تدور فيه حرب الجاسوسية والمخابرات طوال الوقت بلا انقطاع أو توقف، ولو لثانية واحدة.... ومادامت الدولة، أية دولة، قائمة، يجد فيها الناس قوت يومهم، زاد أو نقص، فهذا يعنى أن جهاز مخابراتها – أياً كان – يعمل بكفاءة، ويواصل حمايتها بنجاح ... هذا لأن عمل أجهزة المخابرات، مع سريته البالغة والدائمة، ضرورة حتمية؛ لبقاء أية دولة، وهو أشبه بالأنفاس التى تتردًَّد فى صدورنا ... نتنفسها طوال الوقت، ونملأ صدورنا بها، ونحيا ونعيش بالهواء الذى تجلبه لنا، ولكننا لا نشعر أبداً بأننا نتنفس؛ لأننا نفعل هذا طوال الوقت، فى سلاسة وتلقائية ... فقط نبدأ الشعور بأنفاسنا، عندما تضيق، أو تصاب بأزمة ما، تمنع سلاسة التنفس، وتجعله ثقيلاً.... هكذا عمل المخابرات.... لو أنها تعمل بكفاءة ودقة ونجاح، ودون كلل أو ملل، وعيونها ترصد كل شئ، طوال ساعات الليل والنهار، ولا تجامل أو تحابى أحداً، على حساب أوطانها، فنحن لا نشعر بوجودها، ونتصوًَّر أنه لا عمل لها، أما لو توقفت، ولو لساعة واحدة، فسينتهز الأعداء الفرصة، وينقضوًَّن بلا رحمة أو شفقة، وعندئذ سنشعر بغياب دور المخابرات، وبغيابها عن الساحة.... ومن أهم فنون الجاسوسية، فى لعبة هدم الدول وإضعافها، أن يدفع جهاز مخابرات ما، مواطنى دولة معادية له، أو مترصدًَّة لمحاولاته، إلى الشك فى جهاز مخابراتهم، أو توجيه الاتهامات بالفساد والتجاوز إليه... ولأن عمل المخابرات سرى، ويعتمد على مصادر يستحيل كشفها، أو يمكن أن يؤدى كشفها إلى إفساد عدد آخر من عمليات، تعتمد على المصادر نفسها، فالمخابرات لا تجد وسيلة مناسبة للرد، أو إثبات أنها تعمل كما ينبغى، ومن هذا المنطلق، يسعى العدو إلى دفع المزيد من الشائعات والأخبار الكاذبة إلى الشارع؛ لاستثارته على جهاز مخابراته، وهذا لتحقيق هدفين أساسين، أوًَّلهما إنشاء شعور شعبى، بالعداء لجهاز المخابرات، مما يضعف من تركيزه، ويضعف من ثقة الناس فيه، فى الوقت ذاته، فلا يميلون إلى التعاون معه، أو مد يد المساعدة إليه، فيفقد بهذا ركيزة مهمة، من ركائز سبل معلوماته، والهدف الثانى أن يستطيع، مع ضعف ثقة الناس بجهاز مخابراتهم، أن يجتذب إليه ضعاف النفوس، من أبناء الشعب العدو ، فيصنع منهم طابوراً خامساً، يسعى دون حتى أن يدرى، إلى تحطيم الجبهة الداخلية لوطنه، عبر ترديد الشائعات، التى يدسها العدو فى مهارة؛ لتوسيع الصدع بين الشعب ومخابراته رويداً رويداً ..... وفى كل الكتابات والدراسات، التى تتحدًَّث عن عالم الجاسوسية والمخابرات، تم تصنيف نوع من الجواسيس، باعتباره أقوى أنواع الجواسيس، وأكثرهم فاعلية وخطورة، وهو الجاسوس، الذى لا يعلم أنه جاسوس ... وهنا يدور التساؤل: كيف يمكن أن يكون الإنسان جاسوساً، دون أن يعلم أنه جاسوس؟!... وإجابة هذا الأمر ليست عسيرة، كما قد يتصوًَّر البعض؛ فهناك أنواع عديدة من الجواسيس، الذين لا يدركون فعلياً أنهم جواسيس، مثل الشخص الذى يتحدًَّث فى مكان علنى، عن بعض أسرار جهة عمله، غير مدرك ما الذى يمكن أن يسفر عنه الأمر، إذا ما كانت هناك آذان تستمع، وعقول تتذكًَّر، وأعين ترصد، وأجهزة معادية بكاملها، تجمع كل معلومة، صغيرة أو كبيرة، وترصها إلى جوار بعضها البعض؛ لتصنع منها صورة حيوية واضحة كاملة، يمكن أن تتحوًَّل إلى سلاح قاتل، عندما تحين اللحظة المناسبة لاستخدامها .... وهناك الشخص، الذى يصدًَّق كل ما يصدر عن العدو من شائعات، ويرددها، ويضيف إليها ما يؤيدها، فيتحوًَّل بهذا إلى صدى للعدو، ومنفذ لأهدافه دون حتى أن يدرى ... الأمر المهم، الذى ينبغى أن ننتبه إليه وندركه، هو أن الشائعات، التى يطلقها العدو، لا تكون أبداً بسيطة ومباشرة، مثل أية شائعة، يطلقها شخص ما، أو تطلقها جماعة ما؛ لتحقيق أهداف محدودة... الشائعات التى يطلقها العدو، تكون دوماً شائعات مدروسة بعناية، يقوم على وضعها فريق كامل من المحترفين فى هذا المجال، ويعتمدون فيها على مجموعة من الحقائق المعروفة، مع إعادة صياغتها، وتحديد مضامين مخالفة لها، وترتيبها على النحو الذى يحقق المستهدف منها، كما لا يتم إطلاق الشائعة، إلا بعد التمهيد لها، بشائعات أصغر، تحوى وسطها بعض الحقائق، مما يمنح الشائعة النهائية صورة زائفة من المصداقية، تعتمد فى الأساس على مشاعر الناس، وعلى رغبتهم فى استنتاج كل ما يخفى عنهم، وعلى ما تميل إليه نفوسهم، بحيث تخرج الشائعة فى صورة نهائية، قابلة للتصديق، على الرغم من عدم ربطها بأية أدلة أو براهين.. وبهذا يتحقًَّق فن آخر من فنون الجاسوسية، وهو فن إثارة الشعوب، وتجنيدها لتحقيق أهداف العدو، دون حتى أن تدرى أنها تفعل هذا، فكما أن للجاسوسية فنونا،فإن للجاسوسية المضادة أيضاً .... فنونًا.