نحن فى موقف شديد الطرافة، فالأزهر مستاء من البرلمان بسبب مشروع قانونه الجديد، والبرلمان مستاء من الحكومة لأنها غير متعاونة معه.. فضلا عن أنه طلب تغييرها ولم يُستجب لطلبه، واللجنة العليا للانتخابات الرئاسية علقت أعمالها وزعلانة بسبب ما اعتبرته إهانة وتطاولا على أعضائها من قبل أعضاء البرلمان، ثم المجلس العسكرى يواصل لقاءاته واتصالاته لرأب الصدع بين «الإخوة الأعداء». وأخيرا لدينا حكم القضاء الإدارى ببطلان قرار اللجنة العليا بإحالة قانون العزل إلى المحكمة الدستورية وما يترتب على ذلك من آثار.. لم تحددها المحكمة! ولست أعلم لماذا يفقد البعض صبره سريعا.. فالعمل العام يتطلب طول النفس.. وقبول الرأى الآخر مادام فى حدود الخلاف السياسى وبعيدا عن الحياة الشخصية لأطراف الخلاف.. وإذا كان لا مانع من الاستياء وإعلان الغضب، فيجب ألا يمتد ذلك إلى تعطيل الإجراءات التنفيذية للخروج من المرحلة الانتقالية التى أوشكت على الانتهاء. فلابد أن تقوم كل جهة بما عليها من واجبات ألزمها بها القانون والمجتمع.. وأن يكون «الحوار» الهادئ والصريح هو الفضيلة التى يجب أن نلجأ إليها جميعا لمواجهة ما يعترضنا من أزمات طارئة أو مصطنعة. ومن ثم على المجلس العسكرى- بحكم مسئوليته وبما له من احترام وتقدير من الشعب الذى هو مصدر السلطات فى البلاد- أن يعمل على رأب الصدع بين المختلفين حتى تعود المياه إلى مجاريها الطبيعية فيما بينهم.. من أجل مستقبل أفضل لهذا البلد الطيب.. مصر بلدنا! والآن.. ماذا عن سيناريوهات الأيام القادمة؟.. فنحن بصدد حكم إدارى واجب النفاذ.. إلى حين.. وأيضا بصدد تعديلات تشريعات على قانون الانتخابات الرئاسية معروضة على المحكمة الدستورية العليا لبحث مدى دستوريتها من عدمه. ولنبدأ من الآخر.. فعلى الرغم من التحفظ فيما يتعلق بتوقيت التعديلات التى أدخلها مجلس الشعب على قانون الانتخابات الرئاسية.. حيث أتت متأخرة جدا.. فالمصريون فى الخارج سوف يبدأون التصويت على المرشحين للانتخابات الرئاسية هذا الأسبوع، كما ستجرى الانتخابات العامة داخليا فى الأسبوع الأخير من هذا الشهر، ومن ثم كان من الأولى أن تتم تلك التعديلات قبل أن يفتح باب الترشح لتلك الانتخابات من الأساس. ومع ذلك لا بأس من تلك التعديلات باعتبارها ضمانات إضافية لنزاهة الانتخابات الرئاسية.. حيث تستوجب التعديلات أن تتولى اللجان العامة فى كل محافظة فرز الصناديق وإعلان النتائج وتسليم مندوب كل مرشح نسخة من نتائج الفرز.. فى حين ستتولى اللجنة العليا إعلان النتائج النهائية بعد تجميعها من المحافظات (اللجان العامة)، ولكن المشكلة فيما أدخلته التعديلات من نصوص أخرى تتعلق بحرمان أعضاء اللجنة العليا للانتخابات من التعيين فى الوظائف العامة أو البرلمان طوال فترة الرئيس المنتخب الذى أعلنت اللجنة فوزه. وفى رأيى المتواضع أن هذه «الإضافة» أو هذا المنع لم يكن له ضرورة.. لأنه أولا يمثل تلميحا غير مرغوب فيه لأعضاء اللجنة العليا، وكذلك للرئيس المنتخب من الشعب، وكان لابد من افتراض حسن النية فى الجميع.. وإعلاء مبدأ «الثقة» بين بعضنا البعض.. وثانيا: لأن هذه الإضافة أو المنع يكاد يصل إلى «العقوبة» بما يمثله من حرمان أعضاء اللجنة العليا تولى الوظائف العامة (وزير أو محافظ.. أو التعيين فى البرلمان)، فى حين أنهم لم يقوموا سوى بما كلفهم به الإعلان الدستورى بالإشراف على الانتخابات الرئاسية. فمن المعروف أن العقوبات لا تكون إلا على أفعال مجرمة.. فهل أصبح الإشراف على الانتخابات الرئاسية جريمة يعاقب عليها؟.. فى حين أن المجتمع هو الذى طالب من قبل بالإشراف القضائى على الانتخابات وتحت شعار «قاضٍ لكل صندوق».. نعم.. مجلس الشعب استخدم سلطته الدستورية فى التشريع، ولكن هل يجوز أن يعاقب الشخص على القيام بواجبه المكلف به قانونا.. خاصة إذا كان هذا الواجب سيتم «على الهواء مباشرة»، أى تحت رقابة مندوبى المرشحين ووسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية وتحت إشراف قضائى كامل فى اللجان الفرعية والعامة؟. على أية حال.. لا نملك سوى انتظار قرار المحكمة الدستورية العليا حول مدى دستورية هذه التعديلات الجديدة من عدمه.. فالقانون هو الحكم بيننا جميعا. *** وقد يكون ما تقدم هو ما أغضب أعضاء اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية فأصدرت بيانها بتعليق أعمالها لحين تدخل المجلس العسكرى.. ولكنى أعتقد أن اللجنة ستواصل عملها لأن أعضاءها من شيوخ القضاء الذين يمتلكون من الحكمة ما يكفى للتعامل مع مثل هذه المواقف الطارئة.. وافتراض حسن النية.. وسلامة القصد.. فضلا عن أنهم ملزمون دستوريا وقانونيا بالقيام بواجباتهم المكلفين بها فى الانتهاء من إجراء الانتخابات الرئاسية والتى بدأت بالفعل بتصويت المصريين فى الخارج. أما فيما يتعلق بتنفيذ اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية لحكم القضاء الإدارى ببطلان قرارها بإحالة قانون العزل إلى المحكمة الدستورية.. فالأمر فى رأيى منتهٍ. فاللجنة العليا كانت قد أحالت قانون العزل للمحكمة الدستورية لبحث مدى دستوريته من عدمه.. ولكن الدستورية أعادته للجنة ورفضت النظر فيه على أساس أنه ليس من حق اللجنة الإحالة إليها، وكانت قد رفضت من قبل إحالة ذات القانون إليها من قبل المجلس العسكرى- قبل إصداره- على أساس أن رقابتها لاحقة وليست سابقة- على دستورية القوانين بعد إصدارها والبدء فى تطبيقها. ولكن المشكلة أن هذا القرار الباطل- بحكم القضاء الإدارى- ترتب عليه آثار لم يتعرض لها الحكم.. وهو قبول اللجنة العليا للانتخابات تظلم أحمد شفيق من قرار الاستبعاد السابق، وإعادته مرة أخرى للسباق الرئاسى.. أى أعادت اكتسابه المركز القانونى الذى حصل عليه قبل صدور القانون.. خاصة بعد أن منحته اللجنة الرمز الانتخابى (السلم). والمعنى أننا الآن علمنا من الحكم أن اللجنة العليا لم يكن من حقها إحالة قانون العزل للمحكمة الدستورية.. ولكن ماذا عن أحمد شفيق.. هل يستمر فى السباق الرئاسى أم لا؟. أعتقد أننا أمام عدة سيناريوهات.. أولها أن تقدم اللجنة العليا أو المرشح استشكال فى التنفيذ.. لوقف تنفيذ الحكم.. على أساس أن تنفيذه قد يترتب عليه آثار لا يمكن تداركها مستقبلا.. حيث قد تقضى المحكمة الدستورية- بعد إجراء الانتخابات الرئاسية فى موعدها- بعدم دستورية قانون العزل.. وهو ما يبطل هذه الانتخابات وما أسفرت عنه من نتائج. وهذا الاستشكال فى التنفيذ قد تستجيب له المحكمة أو ترفضه، فإذا استجابت له وأوقفت تنفيذ الحكم فسوف يبقى الحال على ما هو عليه ويستمر شفيق فى السباق الرئاسى، وإذا رفضته.. فسوف يكون الحكم واجب التنفيذ وعلى اللجنة العليا التعامل معه.. وفى تلك الحالة ليس أمامها سوى خيارين: الأول أن تستبعد أحمد شفيق من قائمة المرشحين، والثانى أن تعتبر قرارها بقبول تظلم شفيق من قرار الاستبعاد منفصلا تماما عن قرار إحالة قانون العزل إلى المحكمة الدستورية.. خاصة أن الحكم تعرض لقرار الإحالة وفصل فيه بالبطلان ولم يتعرض لمدى صحة قرار قبول تظلم شفيق من عدمه. بل قد لا تلتفت اللجنة العليا للحكم نهائيا على أساس أن قراراتها- طبقا للإعلان الدستورى- محصنة ضد الطعن عليها.. حيث نص على أن تكون قرارات اللجنة نهائية ونافذة بذاتها، غير قابلة للطعن عليها بأى طريق وأمام أية جهة، كما لا يجوز التعرض لقراراتها بوقف التنفيذ أو الإبقاء. والمشكلة أن الإعلان الدستورى لم يوضح هل جميع قرارات اللجنة محصنة ضد الطعن عليها كما تقدم، أم أن التحصين يتعلق بقرار اللجنة بإعلان النتائج النهائية للانتخابات وإعلان الفائز فيها بالمنصب الرئاسى. والمشكلة أيضا أنه قد يطعن على حكم القضاء الإدارى أمام الإدارية العليا والتى يجوز لها أن تلغى الحكم أو تعدله أو تؤيده. هذا بخلاف ما نحن فى انتظاره من حكم الدستورية العليا والذى قد يصدر قبل إجراء انتخابات الإعادة- لو حدثت- لمنصب الرئيس بين المرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات فى الجولة الأولى.. وقد تحكم بعدم دستورية قانون العزل.. بسبب كل هذه المشاكل. *** والخلاصة أننا أمام وضع قانونى معقد يتعلق بأهم المناصب السيادية فى الدولة.. وهو منصب رئيس الجمهورية.. والمخرج الوحيد والسليم.. هو العودة إلى الأصل أى الاحتكام للشعب الذى هو مصدر كل السلطات فى البلاد.. وأن نحترم إرادة الشعب التى سوف تكشف عنها نتائج الانتخابات الرئاسية، ومن ثم لا نملك سوى «الاحتكام للصندوق». وكفى الله المؤمنين شر القتال!