أشرت من قبل فى مقالات سابقة إلي أن موضوع التمويل الأجنبى يعد قضية ثانوية فى مسار العلاقات الاستراتيجية بين مصر وأمريكا، وطالبت بأن يحل هذا الموضوع «قضاء أو رضاء».. لأنه يمثل عنوانا لجواب أعمق وأشمل لطبيعة وعمق العلاقات بين البلدين. وإذا كانت السلطات المختصة قد سمحت بسفر المتهمين الأجانب فى القضية التى كانت منظورة أمام المحكمة المختصة، فهذا السماح وإن كان يعد وسيلة لانهاء الموضوع إلا أنه يثير الكثير من علامات الاستفهام والجدل. وبمعنى آخر.. لقد كان «الإخراج» سيئا.. خاصة بعد الحملة الإعلامية المكثفة للتحقيقات وقرار الاتهام والإحالة رغم ضعف التكييف القانوني للقضية. فأولا.. قضية التمويل الأجنبى فى مصر قديمة وليست جديدة وكان النظام السابق يغض الطرف عنها لأسباب سياسية معروفة.. ومنها تمرير عملية التوريث فى منصب الرئاسة، ومن ثم لم تكن تلك المنظمات المتهمة تعمل فى صحراء جرداء، وإنما فى العلن التام وتحت بصر كافة الأجهزة المعنية والرقابية فى مصر.. بل كانت الأحزاب القديمة.. والحديثة أيضا مشاركة معها فيما كانت تقوم به من أنشطة.. سواء من خلال السماح لكوادرها بالاشتراك فى الدورات التدريبية التى كانت تنظمها تلك المنظمات أو من خلال المساهمة فى دراسات وبحوث الرأى العام التى كانت تجريها لمعرفة الاتجاهات السائدة فى الرأى العام المصرى. وإذا كان هذا السماح غير الرسمى بممارسة النشاط.. إلى جانب المشاركة المجتمعية فى أنشطتها من قبل الأحزاب والاتحادات والنقابات.. فلم تكتشف تلك المنظمات بأن تكون مجرد فرع لمنظمات أجنبية، وإنما توسعت وانتشرت وافتتحت فروعا لها بالمحافظات المصرية المختلفة. ولكن يبدو أنه كانت هناك «رسالة ما» أرادت السلطات الحاكمة إرسالها إلى أمريكا وغيرها من الدول الأجنبية مفادها أن مصر قد تغيرت بعد 25يناير 2011 وأنه لم يعد مسموحا لأحد بالعبث فى الجبهة الداخلية أو العمل بأى شكل فى المجتمع بدون الحصول على الموافقات الرسمية المطلوبة.. ومن ثم حدثت المداهمات لمقرات تلك الجمعيات ومن بعدها التحقيقات والإحالة للمحاكمة. وأعتقد أن الرسالة قد وصلت.. بأن مصر لن تقبل ضغوطا من أحد وأن القانون فيها سيسرى على الجميع.. وكان يمكن التوقف عند هذا الحد.. من خلال إغلاق مقرات تلك المنظمات وترحيل العاملين الأجانب فيها إلى بلادهم.. مع مصادرة ما تم ضبطه من مستندات ومعدات وأموال!.. وبعدها يصدر النائب العام أو قضاة التحقيق قرارا بأنه لا وجه لإقامة الدعوى ومن ثم حفظها. أما الآن وبعد أن أحيلت القضية إلى المحاكمة.. فقد انتقلت القضية إلى حوزة القضاء.. صحيح أنهم لم يحالوا محبوسين وإنما كان الأجانب منهم ممنوعين من السفر ومغادرة البلاد، ويبدو أنه حدثت ضغوط ما- كشفت عنها تصريحات الجانب الأمريكى- جعلت المحكمة التى تنظر القضية تستشعر الحرج وتقرر التنحى وهو ما يجيز لرئيس محكمة الاستئناف تكليف دائرة أخرى بنظر القضية، وقد تتنحى هى الأخرى.. أسوة بما حدث من الدائرة السابقة.خاصة فى ظل الغموض الخاص بموقف المتهمين المصريين فى القضية الذين أصبحوا فى وضع مختلف عن زملائهم الأجانب.. حيث إنهم معرضون للحبس أو الغرامة بحكم حضورى، بينما يصدر غيابيا فى حق المتهمين الأجانب.. ومن ثم سيصعب التنفيذ بشأنهم بعد السماح لهم بمغادرة البلاد. كما أنه يعد إخلالا بحق المتهمين المصريين فى المساواة مع بقية المتهمين فى القضية وكلهم فى قرار اتهام واحد وهو ما يضع الدائرة التى ستقبل مواصلة نظر القضية فى حرج بالغ.. فقد ميزت «جنسية» المتهمين بينهم وبين بعضهم! وقد يكون صحيحا أن الاتهام مجرد مخالفة قانونية تستوجب الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو غرامة لا تتجاوز 500 جنيه، ولكنه فى كل الأحوال سينطوى الأمر على اتهام ومحاكمة ودخول للقفص وسابقة سوف توضع فى الملفات! لقد كنا نأمل ألا نضع أنفسنا فى هذا الوضع المحرج وكنا نأمل أن تحل القضية قبل الإحالة للمحاكمةمع إغلاق مقرات تلك المنظمات وعدم السماح لها مستقبلا بالعمل فى مصر. ولكن يبدو أنها «الضريبة» التى يجب أن يدفعها المجتمع مقابل حالة الارتباك السياسى فى تلك المرحلة الانتقالية المهمة فى تاريخ مصر..