فى ظروف استثنائية للغاية جاء بيان حكومة د. كمال الجنزورى، فالشارع ثائر ينتظر التغيير الحقيقى والنخبة منقسمة بين معارضين لاستمرار هذه الحكومة بغض النظر عن الأداء، وآخرين يترقبون الفرصة المواتية للقفز على السلطة التنفيذية لامتلاك ناصية الحكم فى مصر، فماذا يمكن أن ننتظر من هذه الحكومة إلا الأداء غير الواثق كونه يتم بأيد مرتعشة تتخوف دوما من نتيجة ما تتخذه من قرارات فى ظل هذه الحالة الضبابية التى تغلب على الشارع السياسى المصرى .. وبالتالى انعكست هذه الحالة المضطربة على ما جاء فى البيان.فالبيان ينطوى على مفارقات عديدة، وفقا للدكتور عادل عامر أستاذ التشريعات المالية بجامعة المنصورة، أكثرها وضوحا وصول فيه حجم الدين العام إلى ما يزيد على 91% من الناتج المحلى الإجمالى فى نهاية يونيو 2011 كما ذكر البنك المركزى، إلا أن د. الجنزورى ذهب إلى أن النسبة 82.2% وأنها ستصل إلى 77.5% فى نهاية 2013/2014. سرد المشكلات وقال د. عامر إن التضارب فى البيان اتضح جليا عندما تحدث عن العدالة الاجتماعية لنجده يذكر أن الحكومة تستهدف زيادة عدد المستفيدين من معاش الضمان الاجتماعى إلى 1.5 مليون، وهذا ما تم تحقيقه بالفعل فى موازنة 2010/2011، وكذلك تجده يتحدث عن زيادة عجز الميزان التجارى فى حين أن الأرقام تؤكد أن الميزان التجارى المصرى حقق هذا العام أقل من الأعوام السابقة. وأضاف أن رئيس الحكومة لجأ فى بيانه إلى سرد وتوصيف المشكلات، بدون وضع حلول مناسبة لها، وربما ينعكس ذلك على التأزم المستمر فى عجز الموازنة لأن الخطط التنفيذية غير المنضبطة يترتب عليها أداء مالى غير منضبط وهذا بدوره أفرز زيادة هذا العجز إلى 155 مليار جنيه على الرغم من أن الحكومة سبق وتعهدت بأن تحافظ عليه عند حدود 144 مليار جنيه، مؤكدا أن البيان ينطوى على خطاب إنشائى يسرد مشكلات ولا يضع خططا زمنية للمواجهة، بحيث لم نجد خطة لمواجهة تراجع الاستثمارات وزيادة معدلات العجز فى الموازنة وارتفاع معدلات البطالة. نسخة طبق الأصل فيما أكد د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن بيان الحكومة، التى توصف بأنها حكومة «إنقاذ وطنى» جاء باهتا كأنه نسخة طبق الأصل من بيانات حكومات العهد البائد، لأنه لم يتضمن جديدا يمكن أن يطمئن الناس إلى أن مستقبلهم آمن، وأن حكومة الإنقاذ تمتلك القدرة على تحقيق ما اصطلح عليها من إنقاذ، مشيرا إلى أنه من المفترض أن تكون حكومة الجنزورى تمتلك مقومات الإنقاذ الذى جاءت من أجله، لكن الواقع يذهب إلى أن هذه الحكومة لم تحقق نجاحات ملموسة على الأرض. وقال د. نافعة إن البيان يدلل على أن أداء الحكومة لن يتغير وأنه لن يحدث جديد خلال الشهور القليلة المتبقية لها، والتى لن تزيد بحال على أربعة أشهر، بافتراض عدم قيام مجلس الشعب بسحب الثقة منها قبل انتهاء المرحلة الانتقالية، فالبيان لم يكن مقنعا حين بدأه بتوجيه لوم لدول أخرى، بما فيها الدول العربية، التى اتهمها بعدم الوفاء بوعودها عندما تراجعت عن تقديم الدعم لمصر الثورة، وكأن هذه الدول الأجنبية مسئولة عن حل مشكلات مصر. وأضاف أن بيان د. الجنزورى جاء وكأنه محاولة لتبرير عجز الحكومة عن القيام بدورها للنهوض بالاقتصاد وتحقيق أهداف الثورة، لذلك كان الرفض العام لهذا البيان لكونه غير مقنع، لافتا إلى أن الجنزورى يصر أيضا على الحديث عن اعتمادات مالية كبيرة تم رصدها لتمويل خطط ومشروعات تنموية طموحة كمشروعات تعمير سيناء وغيرها، على الرغم من أنه يدرك جيدا أن عمر حكومته عدة شهور. وخلص د. نافعة إلى أنه كان أولى بالحكومة أن تركز فى بيانها على الإجراءات التى تنوى الحكومة تنفيذها خلال الأيام والأسابيع القليلة القادمة لمكافحة الفساد، وتحقيق حد أدنى وأقصى حقيقى للأجور لاستهداف العدالة الاجتماعية، ولذلك كانت صدمة الشارع من هذا البيان كونه لم يأت على مستوى طموحاتهم التى تتمثل فى حلول ناجزة لقضايا البطالة والعدالة الاجتماعية والأمن الذى يعانى انفلاتا منذ شهور عديدة. رفض النخبة وطالب د. عثمان محمد عثمان أستاذ العلوم السياسية فى جامعة 6 أكتوبر البرلمان والشارع السياسى بأن يضع نصب عينيه عند تقييم بيان الحكومة الظروف الصعبة التى تعمل فيها الحكومة والتى تتمثل فى الإعلام الذى يمارس ضغوطا لا مثيل لها على حكومة الجنزورى تضعها دائما تحت ضغط فضلا عن الشارع الذى يعانى مشكلات لا حصر لها هى فى الاساس إرثًا للعهد القديم مثل الفساد الإدارى وغياب العدالة الاجتماعية وتراجع معدلات الأداء الاقتصادى، وأن التعرض لسحب الثقة قرار متعجل ينطوى على عدم تقدير جيد للظروف الصعبة، التى تعمل فيها الحكومة. ووصف كل أعضاء حكومة د. الجنزورى بأنهم أبطال لأنهم يمتلكون القدرة على العمل والمواصلة فى ظل هذا الرفض النخبوى القوى لهم مرجعا هذا الإصرار إلى العمل على الرغبة فى دفع عجلة التنمية والخروج بهذا البلد من المأزق الذى يعيشه، وهذا دور وطنى لابد أن يتم وضعه فى الاعتبار عند التعرض بالنقد لبيان الحكومة. ولفت د. عثمان إلى أن بيان حكومة الجنزورى وافٍ للغاية فى ظل هذه الظروف فكيف تعكف حكومة على وضع خطة تنفيذية لعام مقبل فى الوقت الذى تدرك فيه جيدا أن عمرها شهور قليلة، وبالتالى فإنه من الضرورى أن يكون البيان موضحا للمشكلات وأطروحات مواجهة هذه المشكلات بشكل ينطوى على الإنجاز والسرعة، موضحا أن أداء الحكومة جاء متميزا فى مجال مواجهة مشكلات الانفلات الامنى والبطالة والعمالة المؤقتة. وشدد على أن أكثر ما فى البيان من قوة يتمثل فى كونه أعطى نوعًا من أنواع الأمل والتفاؤل للشارع المصرى وأقنعه بأن الأمور كلها تحت السيطرة بدون وعود براقة لا تقدر الحكومة على أدائها خلال هذه المدة القصيرة وتترك الحكومة التى تخلفها فى ورطة حقيقية، موضحا أن د. كمال الجنزورى كان صادقا مع نفسه عندما وضع خططًا مستقبلية لعام يفرضها على حكومات أخرى، بالتالى فهو صادق مع الشعب ولم يطلق وعودًا أو خططًا مستقبلية. لكن د. وحيد عبد المجيد عضو مجلس الشعب أكد أن المطلوب من الحكومة الانتقالية تبقى لها 4 شهور فى العمل أن تقدم خطة تنطوى على عدد من الإجراءات التنفيذية لحماية الأوضاع من التدهور، وليس كما نلحظ من حكومة د.الجنزورى من كلام كثير حول مشروعات قومية تحتاج إلى سنوات طويلة لتنفيذها، مشيرا إلى أن بيان الحكومة جاء فى ذات السياق وحرص فيه د. الجنزورى على تقديم علاج مسكنات الألم الاجتماعى دون تقديم أجندة الإصلاحات المقرر تطبيقها لإحداث حالة التوازن المنشود. وأوضح أنه كان من الأولى أن تقدم الحكومة خططا قصيرة المدى لتسيير الاعمال خلال فترتها المتبقية وفق خطط واضحة، الأمر الذى يعكس ان الجنزورى ينوى تسليم حكومته مع الابقاء على الوضع العام السيئ، لكن الواقع يذهب إلى أنه لم يتحدث عن أى إجراءات فى هذا الاتجاه، وأن الظروف الحالية التى نمر بها لا يتطلع فيها أحد لأكثر من مجرد وقف التدهور. ولفت د. عبدالمجيد إلى أن هذه الحكومة كانت مضطلعة بأن تعلن عن حزمة من الإجراءات التى تواجه التدهور الحالى الذى يعانيه الاقتصاد المصرى بدلا من حديث لا يجدى عن ارتفاع فى عجز الموازنة والدين العام ومعدلات البطالة والميزان التجارى، فالجميع يعرف حدود الأزمة لكن ما نحتاجه من رئيس وزراء متخصص فى التخطيط هو تقديم خطة واضحة لوقف التدهور فى الوضع الاقتصادى الذى يزداد يوما بعد يوم، اضطرت الحكومة أمامه إلى البحث عن وسائل لاقتراض المليارات منها، مؤكدا أنه فى حالة قبول البرلمان لهذا البيان لن يتوقف الاعضاء عن تقديم الاستجوابات لملاحقة الحكومة التى تعانى ضعفا مزمنا فى الأداء. مشروعات قومية أما د. محمود عبدالحى مدير معهد التخطيط القومى الأسبق فأوضح أنه لا يوجد أى مانع من أن تتحدث حكومة انتقالية مثل حكومة الجنزورى عن مشروعات قومية لأن تنفيذ هذه المشروعات قد يحتاج إلى أكثر من حكومة وبالتالى قد تضع حكومة الخطة وتأتى الأخرى لكى تبدأ التنفيذ، مشيرا إلى أن هذه الحكومة تعيش فى ظروف غير طبيعية ففى الوقت الذى يتهكم البعض على قيام د. الجنزورى للتعرض لجهود الحكومة للمضى قدما فى تنفيذ مشروعات قومية لمواجهة مشكلات متأزمة مثل البطالة تجد آخرون يطالبونه بتقديم خطط تنفيذية لمدة عام. وتساءل د. عبدالحي: ما المفترض أن يفعل د. الجنزورى أمام هذه المطالبات المتضاربة؟ لا يجدى أن يصر على مواصلة العمل فى المشروعات الكبرى وكذلك الاكتفاء بتقديم بيان يقتصر على شهور قادمة، مؤكدا أن الحكومة فى بيانها كانت واضحة وحريصة على ألا تقدم وعودا براقة كما كانت تفعل الحكومات السابقة فى عهد الرئيس مبارك بل كانت واقعية وربما تكون هذه الواقعية أو المصداقية أكثر ما يميز البيان لكونه محددًا بشكل لا يترك لأحد فرصة للكلام على وعود براقة للشعب بلا آليات للتنفيذ. ونصح بضرورة أن تؤخذ الأمور بشىء من التعجل، وأن يتم التاسيس للمستقبل بدلا من التأليب والتهديم، لابد ألا يزايد البعض على بيان الحكومة، وأنه من الضرورى أن يتم تقييمه موضوعيا كونه جاء تحت ضغوط شديدة نتيجة مطالب شارع غير مسبوقة وضغوط على الأمن والاقتصاد، لافتا إلى أنه ربما يكون البيان جاء خاليا من خطة محددة لإنجاز الأهداف لأنه لا توجد ضمانات للحكومة الحالية بتنفيذها وبالتالى فإن وضع خطة لحكومة قادمة أمر قد يكون غريبا لأن الحكومة القادمة فى الغالب سيكون لها رؤية مغايرة للأمور. وأكد د. رشاد عبده أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة أن بيان الحكومة انطوى على محاولات جادة لتجمل صورة الحكومة أمام البرلمان، حيث اتضح جليا خلال إلقاء د. الجنزورى للبيان أن يبحث عن تعاطف نواب البرلمان أكثر من حرصه على عرض قضايا جادة تحتاج إلى حلول واضحة للخروج من الوضع الراهن، مشيرا إلى أن الحكومة مطالبة الآن أكثر من أى وقت مضى أن تحدد فى بيانها المشكلات التى يعانيها الوطن وآليات مواجهة هذه المشكلات. الأمن والاقتصاد «ملفا الأمن والاقتصاد» فى رأى د. نادية مصطفى رئيس قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة هما أكثر الملفات التى كان من المفترض أن توليهما الحكومة الأهمية القصوى فى بيانها، لأن خطورتهما تتزايد يوما بعد الآخر، خاصة أن الأسباب الاقتصادية كانت هى المحرك الأساسى لقيام الثورة، موضحة أن ملف الاقتصاد كان يستخدم دوما إبان حكم الرئيس المخلوع حسنى مبارك كفزاعة للشعب، بحجة أنه سوف يتعرض لمجاعة وأزمة اقتصادية فى حال رحيله، وهو أيضا الملف الذى تلعب عليه الحركات والمنظمات فى الداخل والخارج. وقال د. مصطفى خلال مؤتمر «الاقتصاد المصرى بعد عام من الثورة - تحديات وأولويات الخروج من الأزمة» الذى أقامته الكلية مؤخرا إنه بعد مرور عام على الثورة لابد أن يتم طرح تساؤل هام وهو: هل ما حدث فى الاقتصاد المصرى من تدهور مقصود ومدبر أم أنها تحديات لفترة انتقالية تعيشها مصر؟ علما بأن المؤشرات تذهب إلى أن هناك إهمالا متعمدا يتجه بالبلاد إلى المزيد من التدهور. وأضافت أن هذا الاهمال المتعمد يتضح من خلال عدم وجود رؤية كلية واضحة وتحرك فعلى واعتراف صريح من قبل المجلس العسكرى والحكومة لمعالجة الأمر، خاصة أن ذلك الأمر كان من الممكن ألا نعتبره إهمالا فى الأربعة أشهر الأولى، ولكن بعد مرور 8 أشهر إضافية أيضا وإجراء انتخابات برلمانية وشورى، نؤكد أن هناك إهمالا مقصودا يؤدى إلى تصفير الاقتصاد المصرى والاحتياطى النقدى. ولفتت إلى أن المجلس العسكرى والحكومة مازال يستحكم عليهما أسلوب النظام السابق فى إدارة شئون البلاد واستخدام مسكنات خوفا من حدوث انفجار شعبى، لافتة إلى أن البيان الذى ألقاه الدكتور كمال الجنزورى يعطى مؤشرًا بوضع لا نستطيع السكوت عليه، مشيرة إلى أن الوضع الاقتصادى فى مصر مسئولية مشتركة بين المجلس العسكرى والحكومة والشعب ولكن على العسكرى والحكومة مصارحة الشعب. حكومة الأغلبية ومن جانبه أكد النائب حسين إبراهيم زعيم الأغلبية بالبرلمان أن خطاب الجنزورى أكثر ما يمكن أن يوصف به أنه عاطفى، بدأ بالحديث عن الثورة وانتهى بكلمات إنشائية لم تحدد آليات لمواجهة المشكلات الرئيسية المتعلقة بالأمن والتدهور الاقتصادى، متوقعا أن ترفض أغلبية المجلس هذا البيان وبالتالى سحب الثقة من الحكومة، التى تعانى ضعفا فى الأداء لا يؤهلها للعمل فى ظل هذه الظروف الثورية. وشدد زعيم الأغلبية على أن حزب الحرية والعدالة قد يبدأ مشاوراته قريبا لتشكيل حكومة جديدة، لتتولى زمام المبادرة لإعادة الأمور إلى نصابها فيكون الأمن فى الشارع وعودة الانتاج إلى ما كان عليه، لافتا إلى أن المجلس العسكرى سيمنح حزبه فرصة تشكيل الحكومة، لأنه لن يستطيع أن يسير ضد رغبات الناس الذين اختاروا الحزب ليمثل أغلبية المجلس. أما فايزة أبوالنجا وزيرة التخطيط والتعاون الدولى فأوضحت أن د. كمال الجنزورى هو صاحب الجهد الرئيسى فى بيان الحكومة الذى عرضه على نواب مجلس الشعب، وأنه من بذل الجهد الأكبر فيه وبيده وهو أقدر من يقوم بذلك بتاريخه وهم كوزراء تعاونوا كل فى اختصاصه، مشيرة إلى أن البيان لم يتجاهل الرؤية للمستقبل، كما يروج البعض، بل عرض بيان الحكومة لرؤية انطلقت من الوضع الحالى إلى المستقبل. وردت أبو النجا على كل من ينتقد بيان الحكومة لأنه لا يدلل على أنه صادر عن حكومة انقاذ عمرها شهور، بقولها: هذا من وظيفة حكومة الانقاذ الوطنى ومن مهامها أن تضع رؤى للحكومات والإدارة المصرية القادمة تنظر فيها وهى فى وزارة التخطيط تعد للخطة الشاملة التى أعلن عنها الدكتور الجنزورى وهذه الخطة تمتد إلى خطتين أى إلى 10 سنوات قادمة تبدأ بالشهور القليلة القادمة والعامين القادمين ثم الرؤية لما بعد ذلك لأن واجب الحكومات الانتقالية وضع أرضية ممهدة ومخطط التنمية العمرانية يمتد إلى 40 عاما.