الحرب العالمية الثانية هى مدرسة فى علم الجاسوسية؛ ففى زمن الحروب، تتألق أعمال الجاسوسية والتخابر إلى حد كبير؛ نظراً لأهمية وخطورة المعلومات، التى يمكن أن تغيًَّر مجرى الأمور، فى اللحظات الحاسمة... وفى تلك الحرب بالذات، كان العالم يعاد تشكيله، على نحو شديد العنف، وكانت المخابرات الألمانية فى أوج نشاطها، كما كانت المخابرات البريطانية هى سيدة هذا المجال، فى نفس الوقت الذى يعتمد فيه النظام الشيوعى على قوة مخابراته، إلى أقصى درجة ممكنة، حتى فى إدارة شئونه الداخلية، كما كان المنافس الفكرى الأساسى للنازية، وكلاهما له أتباع فى كل أنحاء الأرض تقريباً، وبالذات عبر بلدان (أوروبا)، التى مال معظم من يعانون فيها، إلى أحد النظامين، إما النازى الاشتراكى، أو الشيوعى، وهنا، وعندما بدأ (هتلر) الحرب، نشطت معه مخابرات الدول الثلاث، إلى حد غير مسبوق فى التاريخ الحديث... وفى قلب (المانيا)، كان (ريتشارد سورج)، الأستاذ الجامعى الصارم، عضواً فى الحزب الشيوعى الألمانى، حتى تولى (هتلر) مقاليد السلطة، على رأس الحزب النازى، وأعلن الحرب المستعرة على الشيوعية... وبوسيلة ما، نجح (سورج) فى التخلًَّص من كل ما يربطه بالحزب الشيوعى؛ حتى لا يتعًَّرض للتنكيل، بل وانضم إلى الحزب النازى، الذى يخالف كل معتقداته وأفكاره، والعجيب أنه نجح فى اكتساب ثقة قادته، حتى أنه صار أحد المحررين الرئيسين، فى جريدة الحزب، ومراسلاً متجوًَّلاً لها فى (أوروبا)، وخاصة فى البلدان التى وقعت تحت الاحتلال النازى أيامها ... وذات يوم، وبينما كان (سورج) فى طريقه إلى منزله، بعد يوم شاق، فوجئ برجل يستوقفه، ويطلب منه أن يلتقى به لقاءً منفرداً، وقبل أن يرفض (سورج)، أطلعه الرجل على بطاقة عضويته القديمة فى الحزب الشيوعى الألمانى، والتى ظن (سورج) أنه قد تخلًَّص منها تماماً، مما لا يدع أمامه مجالاً للاعتراض، فدعا الرجل إلى منزله، حيث يمكنهما الحديث، دون أن يراهما أحد ...وفى منزله، فوجئ (سورج) بأن الرجل هو كولونيل فى المخابرات السوفيتية (KGB)، وأنه يطلب منه العمل لحسابهم، ضد النظام النازى، الذى يبغضه فى أعماقه كل البغض...ودون الدخول فى تفاصيل، تحتاج إلى مجلد كامل، قبل (سورج) المهمة، وصار منذ تلك اللحظة جاسوساً للسوفيت، يحظى بثقة واحترام معظم قيادات الحزب النازى، الذى يريق دماء (أوروبا) والعالم بلا رحمة؛ فى محاولة لتحقيق حلم(هتلر) بزعامة العالم، وتحويله إلى كيان واحد، يرفع العلم النازى... ولقد تجلًَّت أهمية (سورج) الكبيرة، عندما نقض(هتلر) اتفاقية الدفاع المشترك، التى أبرمها مع (روسيا) قبيل الحرب العالمية الثانية مباشرة، وبدأ عملية (بارباروسا) أو (بارباروزا)، والتى تعنى (ذى اللحية الحمراء)؛ إذ ساعدت علاقة (سورج) بالقيادات السياسية والعسكرية الألمانية، على تجنيب (روسيا) ضربات موجعة، خلال العمليات العسكرية، التى انتصر فيها الألمان على طول الخط، حتى صاروا على بعد أقل من خمسين كيلو متراً، من العاصمة الروسية (موسكو)...أيامها، وتبعاً لعمله كمراسل حربى، انتقل (سورج) إلى (اليابان)، حليفة (ألمانيا) الأولى، وأقام- ويا للمفارقة- فى منزل مسئول يابانى كبير، حيث دس جهاز اللاسلكى الخاص، الذى يرسل عبره المعلومات إلى سادته السوفيت، على نحو منتظم ...وفى (اليابان)، وبعبقرية سجلها له التاريخ، صنع (سورج) وأدار واحدة من أقوى شبكات التجسًَّس، التى عرفها التاريخ، وراح عبرها يمد المخابرات الروسية بأخطر المعلومات السياسية والعسكرية، طوال فترة عمله، فى نفس الوقت الذى عانت فيه (روسيا) من نقص شديد فى القيادات العسكرية، بعد أن كان (ستالين) قد أعدم، فى وقت سابق للحرب، أكثر من ألف وثمانمائة من القادة العسكريين؛ بتهمة الخيانة، أو عدم الاتفاق مع فكره، وأسلوب إدارته للبلاد ...وبلغ الموقف ذروة الخطورة، عندما صار النازيون قاب قوسين أو أدنى من (موسكو)، التى تخشى فى الوقت ذاته هجوم اليابانيين من الجانب الآخر؛ لتطويق (روسيا)، مما أجبرها على توزيع قواتها بين الجبهتين، على نحو لم يمنح القوة الكافية لأية جبهة... فى ذلك الوقت، كان (سورج) قد كوًَّن صداقات شديدة القوة، مع العسكريين والسياسيين اليابانيين، ومنهم عرف أخطر معلومة فى الحرب العالمية الثانية كلها ... عرف أن القيادة اليابانية قد اتخذت قراراً حاسماً، بعدم شن الحرب على (روسيا)... ووصلت المعلومة إلى السوفيت، ودفعتهم لاتخاذ أخطر قرارات الحرب ...