إذا لم تمتلك حاسة شم قوية فربما تأكل طبيخا فاسدا ويسمم بدنك، وبالتأكيد سوف ترتفع نسبة تحقق هذا الاحتمال إذا كنت جائعا. والشعوب العربية بالفعل كانت جائعة وتوّاقة لتجارب حكم رشيدة لا توفر فقط الطعام لها ولكن أيضا تمنحها الحياة فى كرامة وحرية، وفى ثورات الربيع العربى خرجت هذه الشعوب تبحث عن حقها فى الطعام «الخبز» والحرية والكرامة وتنتزعها من الأقلية التى استأثرت بها فسرقت الطعام وامتلكت أدوات الحرية وادعت لنفسها الكرامة وسلبتها من الآخرين. وليس معنى ما سبق أن المصريين لم يعرفوا الحرية، بلى عرفوها وعاشوا زخمها منذ ثورة 52 وكونوا لها منذ هذا التاريخ مذاقا وإحساسا وطنيا وقوميا صاروا من خلاله يميزون الطيب من الخبيث، وعلى خلفية هذا التراكم التاريخى لن ينخدعوا فى تلك الحرية المستوردة التى تفوح منها رائحة الفساد ولا تصلح إلا أن تكون طعاما للكلاب. (1) لأنه جورنال مختلف.. فهو يقدم نفسه فى ملصق إعلانى بأنه لن يكتفى بأن يقول للقارئ «إيه اللى حصل» ولكنه سوف يفسره له ويقول له «ليه دا حصل». وأصحاب هذا الجورنال اجتمعوا أيضا فى تمويل قناة فضائية تريد تحرير العقول.. والجورنال والقناة يمدان جذورهما وفروعهما إلى قطر، وقطر تتبنى مشاريع التغيير الانقلابى فى الأنظمة العربية، وهى مثل مقاولى الباطن تولت بعض عمليات الحفر والهدم وإشعال النار فى هذه الدول، ومن أبرز أنشطتها لتحويل الأفكار الأمريكية إلى واقع تبنت قطر مؤتمرات التحول الديمقراطي، وفى الدوحة انعقد ولأول مرة منتدى المستقبل عام 2006 بدعم أمريكى فج للدفع باتجاه التغيير المنشود فى المنطقة، ومن ضمن المشاريع التى تبنتها أيضا قطر مشروع أكاديمية التغيير ولتلك الأكاديمية قصة مدهشة يجب أن تعرفوها، ولو أنى أرى أن ما يثير الدهشة أكثر هو تلك التربيطات التى جمعت قوى عديدة فى الداخل المصرى وخارجه على هدف محدد وهو إسقاط النظام الحاكم، هذا الهدف الذى جمع الرأسمالية العالمية «الأمريكان والغرب» على جماعة الإخوان الإسلامية والنظام الحاكم فى قطر الذى احتضن وشارك فى تمويل وتدريب حركات الاحتجاج المصرية والنشطاء الشبان وأشعل النار فى قلوب وعقول المصريين (وباقى العرب بالمناوبة) عبر قناة الجزيرة، وتولى عقد مؤتمرات ومنتديات التحول الديمقراطى «على الطريقة الأمريكية»، فعل ذلك فى سعيه المحموم لتحقيق مصالح هى فى الحقيقة مصائب واتهامات فنّد بعضها الكاتب السعودى عبدالعزيز الخميس الذى عمل لسنوات طويلة فى صحيفة الشرق الأوسط الدولية ورأس تحرير مجلة «المجلة» فى مقاله المعنون ب «مشروع التغيير العربى بين قطر والإخوان» والمنشور على موقع وجهات نظر الإلكترونى بتاريخ 5أغسطس الماضى. (2) والخطوط العريضة التى تتعلق بما يخص قطر فى ثورات الربيع العربى حسبما جاء فى المقال سالف الذكر هى كالآتى: * هناك مخطط للتغيير فى المنطقة العربية اتفقت فيه أمريكا وقطر على أن تعمل الأولى بجانب الشباب الليبرالى وتعمل قطر بجانب الإسلاميين. * تضمنت المهمة القطرية مشروعين، الأول هو مشروع النهضة يديره القطرى د.جاسم سلطان وهو رجل محنك ملتزم بتعاليم الإخوان المسلمين، لكن أفكاره تتماس مع أفكار الإسلام الليبرالى التى يروج لها الغرب، والمشروع الثانى هو مؤسسة أكاديمية التغيير التى احتضنتها قطر عبر زوج ابنة الشيخ يوسف القرضاوى، فصارت أكاديمية التغيير بمثابة النافذة لأفكار التغيير اللاعنفى التى أتوا بها من «جين شارب» وأيضا نافذة لأفكار د.جاسم سلطان عن التغيير فى المجتمع العربى والإسلامى. * هناك من يرى أن هدف قطر هو مساندة الإخوان للسيطرة على أنظمة الحكم وتحريك الشعوب العربية لتتويج الإخوان المحسوبين عليها لإيصالهم إلى الحكم فى بعض الدول العربية وبالتالى وقوع هذه الدول تحت سيطرة قطرية غير مباشرة. * نتيجة للإلحاح القطرى على الأمريكيين تبنى الأخيرون حركة 6 إبريل وحشدوا الدعم المادى والمعنوى لها، حدث هذا فى البداية بتمنع خجول من أمريكا لتشككها فى وجود بُعد إخوانى وخشية منها (أمريكا) أن يتسبب هذا فى إحراجها مع أنظمة حكم عربية حليفة كالنظام المصرى إذا افتضحت علاقتها مع فئة معارضة مثل «الإخوان المسلمين». (3) وبينما كان الصيادون يحكمون شباكهم للإيقاع بالفريسة، كان النظام المصرى الغائب فى مشروع التوريث لا يدرك- عن استهانة غبية- الواقع من حوله، وأكبر دليل هو رد فعل جمال مبارك (عنوان النظام فى سنواته الأخيرة) حين سخر من شاب سأله فى أحد مؤتمرات الحزب الوطنى «المنحل» عمن يمكن أن يدخل معه فى مناظرة علنية من جماعة الإخوان أو 6إبريل أو نشطاء ال«فيس بوك»، فضحك جمال ساخرا وطلب من الحضور أن يتولى أحد الرد على سؤاله (لا يستحق أن يرد عليه بنفسه)، ونادى مبارك الابن حسين عبدالغنى مدير مكتب قناة الجزيرة القطرية فى مصر باسمه وطلب منه أن يرد على الشاب (!!)، وقبل هذا المؤتمر أو بعده سلك مبارك الأب تقريبا نفس السلوك حين قال جملته الشهيرة :«خليهم يتسلوا» ساخرا من أعضاء مجلس الشعب الذين أطاحت بهم عمليات التزوير فأعلنوا عن تكوين برلمان مواز.. «وتقدّرون وتسخر الأقدار». (4) أما «أكاديمية التغيير» التى تولت بجانب الأمريكان تدريب نشطاء التغيير فى مصر إلكترونيا، فقد أورد تقرير لوكالة رويترز الإخبارية منشور بتاريخ 3أبريل الماضى وعنوانه: «من داخل الثورة المصرية» جانبا من تفاصيل نشأتها فى لندن أولا قبل انتقالها إلى قطر، والبداية كانت أوائل عام 2005 مع مهندس الكمبيوتر المصرى سعد بحار الذى كان يبلغ من العمر وقتذاك 32عاما ومهتما بالسياسة والتغيير، وبينما هو جالس إلى جهاز الكمبيوتر الخاص به يبحر على الإنترنت صادفه أحد المواقع باللغة العربية أنشأه 3 مصريين مقيمين فى الخارج يروجون من خلاله لاستخدام أساليب سلمية للإطاحة بالرئيس حسنى مبارك، وجذبت الفكرة «بحار» فاتصل إلكترونيا بالثلاثة وهم طبيب أطفال اسمه هشام مرسى «لم يذكر التقرير أنه زوج ابنة الشيخ القرضاوى»، والثانى مهندس مدنى اسمه وائل عادل والثالث كيميائى من أقارب عادل اسمه أحمد، وثلاثتهم كانوا قد تركوا مصر بحثا عن عمل فى لندن وهناك استلهموا الطريقة التى أطاحت بها حركة «أتبور» بالرئيس الصربى ميلوسوفيتش، هذه الطريقة التى وضعها جين شارب البروفيسور الأمريكى الذى يقيم فى بوسطن. ومن خلال الموقع الإلكترونى بدأ المصريون الثلاثة الترويج لأفكار العصيان المدنى والإضراب والكفاح السلمى، وفى نوفمبر 2005 جاء وائل عادل إلى القاهرة وحاضر فى ورشة عمل لمدة 3أيام حول نفس الأفكار وكان من بين الحضور فى الجلسة نحو 30 عضوا من نشطاء حركة كفاية، ألقى عليهم عادل دروسا فى كيفية التجمع فى إطار شبكة لا مركزية حتى يصعب على أجهزة الأمن تفريقهم أو اعتقال زعمائهم، وكما قال نفس الشخص فى مقابلة له مع وكالة رويترز تمت فى أحد مقاهى القاهرة فى شهر مارس بعد الثورة : «كانت هناك تجربة وخطأ قبل أن يكتسب النشطاء السلميون فى مصر من القوة ما يكفى للبدء فى الهجوم على ديكتاتور». وفى تلك الأثناء، حوّل النشطاء المصريون الثلاثة نشاطهم النظرى الذى كانوا يمارسونه من خلال الإنترنت إلى منظمة أطلقوا عليها اسم «أكاديمية التغيير» وكان مقرها لندن وانتقلت فى نهاية المطاف إلى قطر، وانتشرت أفكار أكاديمية التغيير فى مصر، ووصلت الدعوة للتغيير إلى مناطق صناعية، وكان الانتصار الأول الحقيقى فى ديسمبر 2006 عندما أضرب أكثر من 20 ألف عامل نسيج لمدة 6 أيام.. وقدمت الحكومة تنازلات لتتجنب وقوع خسائر نتيجة توقف الإنتاج ثم وقعت انتكاسة فى شهر إبريل عام 2008 حين بدأ عمال المحلة إضرابا جديدا بسبب ارتفاع الأسعار ولاقت دعوة إلكترونية أطلقها نشطاء سابقون فى كفاية لدعم إضراب العمال فى المحلة صدى، وتحول الاحتجاج إلى مصادمات عنيفة. (5) ربما باقى تفاصيل ما حدث وحتى الثورة صارت معروفة الآن، لكن باقى «حكاية أكاديمية التغيير» فى مصادر أخرى تشير إلى أن القطريين أعجبهم ما أنجزته أكاديمية التغيير فى الواقع المصرى من احتجاجات وإضرابات فصعّدت من دعمها للأكاديمية والقائمين عليها وسبغت عليها رعايتها وافتتحت فرعا لها فى الدوحة.. وفى 31 يناير (أثناء الثورة) تم إلقاء القبض على هشام مرسى زوج ابنة القرضاوى فى القاهرة وتم الإفراج عنه من خلال ضغوط كبيرة من السفارة الانجليزية فى حين تولى ابن القرضاوى الشاعر يوسف عبدالرحمن حملة د.البرادعى منذ قدومه إلى مصر شهر يناير 2010 بعد أن علق عضويته فى مجموعة الأزمات الدولية التى فوضه الإخوان للتحدث باسمهم فيها والتى تضم فى عضويتها جورج سورس الملياردير المهووس بدعم الربيع العربي، وبريجينكسى الأب الروحى للمشروع الإمبراطورى الأمريكى «مشروع القرن». وكملاحظة أخيرة عابرة فإن أكاديمية التغيير توزع نشاطها على 3مجموعات أو مشاريع تحمل عناوين: أدوات التغيير، ثورة المشاريع، وثورة العقول.. ألا يذكرك هذا بالشعار الذى يصدع رءوسنا عن الشعب الذى يريد تحرير العقول!.