أتابع باهتمام بالغ محاولات الفلسطينيين لانتزاع اعتراف من الأممالمتحدة بدولة فلسطينية تقوم على حدود عام 1967.. الفلسطينيون يعرفون جيداً أن حصولهم على هذا الاعتراف ليس معناه أنهم سيحصلون غداً على دولة.. وإنما هى مجرد محاولة لحفظ حقهم مستقبلاً فى أراضيهم التى تتآكل بفعل مخططات الاستيطان الإسرائيلية.. ومع ذلك تقف الولاياتالمتحدة بالمرصاد لهذه المحاولة المشروعة وتصفها بأنها تجاوز غير مقبول وخطوة غير صحيحة فى طريق تحقيق السلام.. أما إسرائيل فهى كالعادة تكسر كل قواعد العقل والمنطق.. تصف محاولة الفلسطينيين بأنها خطوة أحادية وتطالبهم بالعودة للمفاوضات التى ترفض هى العودة إليها.. وتنسى أو تتناسى أن مشروعات الاستيطان التى تسابق الزمن لتنفيذها هى خطوة أحادية.. إجرامية!.. ما يثير الدهشة والأسف أنه فى الوقت الذى يجب أن يتحد فيه الفلسطينيون أمام هذا الخطر الجسيم.. نجدهم كالعادة يختلفون..! وليس خوفى على الفلسطينيين ودولتهم هو السبب الوحيد لاهتمامى البالغ بالموضوع.. وإنما لأننى أخاف أيضا على مصر.. ما هى العلاقة بين محاولة الفلسطينيين لانتزاع اعتراف من الأممالمتحدة بدولتهم وبين مصر؟.. أحتاج صبر القارئ لنصل إلى الإجابة!.. وأبدأ بالموقف الأمريكى من محاولة الفلسطينيين والذى يؤكد أن ما كنا نحسبه موسى تبين أنه فرعون!.. الإدارة الأمريكية أو بالتحديد الرئيس باراك أوباما.. الذى تحدث فى العام الماضى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن حلمه (الشخصى) فى انضمام دولة فلسطين للمنظمة العالمية.. والذى كاد أن يبكينا فى القاهرة تأثراً عندما تحدث فى خطاب ألقاه فى قاعة الاحتفالات الكبرى فى جامعة القاهرة.. فقال بالحرف الواحد إنه لا يمكن إنكار أن الشعب الفلسطينى عانى فى سعيه إلى إقامة وطن وتحمل آلام النزوح على مدى أكثر من 60 عاما.. وأن الفلسطينيين حتى الآن يتحملون إهانات يومية ناتجة عن الاحتلال وأن أوضاعهم لا تطاق.. وأن أمريكا لن تدير ظهرها للتطلعات المشروعة للفلسطينيين.. أظننا نتذكر أنه أكد فى خطابه أن السبيل الوحيد لتحقيق هذه التطلعات المشروعة هو إقامة الدولتين.. ووعد بأنه شخصيا سيسعى لتحقيق هذا الحل.. الرئيس أوباما فى خطابه مضى إلى ما هو أبعد وأهم فتحدث بوضوح وصراحة وشجاعة عن أكثر المسائل حساسية.. قضية القدس التى قال إنها لابد أن تكون وطنا للجميع.. اليهود والمسيحيين والمسلمين.. وهو ما يعنى رفضه لمسألة انفراد إسرائيل بالقدس والاستيلاء عليها بالكامل.. الرئيس الأمريكى أوباما الذى قال كل هذا الكلام فصدقناه وتصورنا أن عهد الانحياز الأمريكى السافر لإسرائيل قد انتهى.. هو نفسه الذى يقود اليوم حملة شرسة لمعاقبة الفلسطينيين وتأديبهم على تجرئهم على الذهاب للأمم المتحدة للحصول على اعتراف بدولة فلسطينية.. افتراضية!.. الرئيس أوباما قام بتجييش إدارته لإقناع الفلسطينيين بالعدول عن موقفهم وإقناعهم بعدم الذهاب إلى الأممالمتحدة.. ثم بدأ يمارس عليهم ضغوطا رهيبة مثل تهديدهم بوقف المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية.. وأكثر من ذلك فقد هدد الرئيس الأمريكى العالم كله إذا ذهب الفلسطينيون إلى الأممالمتحدة وأعلن أن الولاياتالمتحدة ستتوقف عن المساهمة فى ميزانية الأممالمتحدة إذا وافقت على الاعتراف بالدولة الفلسطينية الافتراضية!.. الرئيس الأمريكى بالطبع لم يُخْف أنه سيستخدم الفيتو فى مجلس الأمن إذا ما لجأ إليه الفلسطينيون.. وهكذا كان الرئيس الأمريكى - الذى سمعنا منه كلاما معسولا وعهودا - واضحا فى موقفه العدائى.. فيتو أمريكى ضد الفلسطينيين فى مجلس الأمن.. وعقاب رادع للفلسطينيين ودول العالم فى الجمعية العامة للأمم المتحدة!.. فإذا أضفنا لذلك كله أن إسرائيل تراوغ وتناور للتنصل من المفاوضات ومن عملية السلام كلها.. وأن لها مخططات إجرامية تستهدف ابتلاع الأراضى الفلسطينية والقضاء على دولة فلسطين قبل ولادتها.. وإذا أضفنا لذلك كله أيضاً الخطاب الذى ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو قبل عام أمام الكونجرس الأمريكى وقال فيه إن حدود إسرائيل هى الحدود الحالية وأن على الفلسطينيون إذا أرادوا أن تكون لهم دولة أن يبحثوا لها عن مكان آخر.. ثم يحظى هذا الكلام بتصفيق أعضاء الكونجرس الأمريكى!.. إذا أضفنا ذلك كله للموقف الأمريكى المنحاز فمن المؤكد أن سفينة الفلسطينيين قد وصلت إلى شواطئ اليأس.. ومن المؤكد أن العالم كله قد أصابه الإحباط!.. هل ستتحمل الولاياتالمتحدة وهل ستتحمل إسرائيل هذه النتيجة؟!.. احتمالان لا ثالث لهما.. إما أن يحظى الفلسطينيون باعتراف الأممالمتحدة بدولة فلسطينية قائمة على حدود 1967.. وإما أن يفشلوا فى الحصول على هذا الاعتراف.. إذا اعترفت الأممالمتحدة بدولة فلسطينية فإن هذا الاعتراف سيمثل بلا شك عقبة هائلة فى طريق تنفيذ المخططات الإسرائيلية لابتلاع الأراضى الفلسطينية عن طريق المستوطنات.. اعتراف الأممالمتحدة بدولة فلسطينية لن يكون نهاية المطاف فمن المؤكد أن الضغوط العربية والدولية ستتصاعد لتحويل هذا الاعتراف إلى واقع ملموس.. دولة فلسطينية على حدود 1967.. كل ذلك تخاف منه إسرائيل وتسعى لعدم تحقيقه.. الاحتمال الثانى أن يفشل الفلسطينيون فى انتزاع اعتراف من الأممالمتحدة بدولتهم.. وفى هذه الحالة ستكون ردود الفعل فى غير صالح إسرائيل والولاياتالمتحدة.. بالنسبة للولايات المتحدة فإن غضب الشارع العربى سيصل إلى مداه.. وفى ظل الثورات التى يعيشها العالم العربى وبعد سقوط النظام المصرى تحديداً.. لن يصبح فى وسع أى حاكم عربى الوقوف أمام شعبه.. فإذا غضب الشارع فسيكون الحاكم أول الغاضبين!.. ومن المؤكد أن ذلك كله سينعكس على مصالح الولاياتالمتحدة فى المنطقة العربية.. ومن المؤكد أن كل مصالحها فى المنطقة ستصبح مهددة.. بالنسبة لإسرائيل المسألة ستصبح أسوأ فلن يقتصر الأمر على تهديد مصالحها فى المنطقة ولا تهديد ما حصلت عليه من مكتسبات عن طريق استثمارها لاتفاقيات السلام والتغلغل فى بعض البلاد العربية.. وإنما يمكن أن يصل التهديد إلى وجودها نفسه!.. حادث اقتحام السفارة الإسرائيلية ليس بعيداً.. وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع مبدأ اقتحام سفارة أجنبية فإن الواقع يؤكد أن الشارع العربى والمصرى تحديداً لم يعد لديه القدرة على الصبر والتحمل.. ثم إن مظاهر الغضب بدأت تتخذ أشكالاً مختلفة.. الدعوة لإلغاء معاهدة السلام.. الدعوة لاقتحام الحدود مع إسرائيل.. الحرب!.. لا أحد يشجع على ذلك لكننى أتحدث عن ردود فعل الشارع المصرى الغاضبة والتى لم يعد فى مقدور أى حاكم تجاهلها.. كل ذلك يصب فى خانة تهديد إسرائيل ومصالح إسرائيل.. فهل تغامر إسرائيل باستثارة غضب الشارع العربى والمصرى؟.. هل تقدر إسرائيل على تحمل تبعات هذا الغضب؟!.. السؤال يخص الولاياتالمتحدة أيضاً.. هل ستقدر على تحمل تبعات غضب الشارع العربى وتعرض مصالحها فى المنطقة للخطر؟!.. المسألة بهذا الشكل تدخل فى إطار المعادلة الصعبة بالنسبة لأمريكا وبالنسبة لإسرائيل.. اعتراف الأممالمتحدة بدولة فلسطينية.. مشكلة.. وعدم اعترافها مشكلة أكبر!.. كيف تحل أمريكا وكيف تفك إسرائيل هذه المعادلة الصعبة؟.. لابد من حل سحرى!.. أن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو تحدث أمام الكونجرس وقال إذا أراد الفلسطينيون أن تكون لهم دولة فعليهم أن يبحثوا لهم عن مكان آخر غير حدود إسرائيل الحالية.. ما هو هذا المكان الآخر إن لم يكن سيناء أو على الأقل جزءاً منها؟!.. ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلى قاله غيره من زعماء إسرائيل.. فبين الحين والحين تطفو على سطح المجتمع الإسرائيلى أفكار تتحدث عن دولة فلسطينية مكانها سيناء!.. أظننا نذكر ما قاله أحد الحاخامات المتطرفين فى أعقاب اقتحام معبر رفح فى فبراير من عام 2008.. الحاخام الإسرائيلى تحدث عن ضرورة التخلص من غزة بنقل سكانها إلى سيناء وتوطينهم فيها.. وبذلك تكون هناك الدولة الفلسطينية التى يحلم الفلسطينيون بإقامتها!.. ثم هل يمكن أن نتجاهل ما يحدث فى سيناء من عنف واضطرابات.. اعتداء على أقسام الشرطة ومحطات الغاز وغيرها.. كميات هائلة من الأسلحة أصبحت موجودة فى سيناء من نوعيات تستخدمها الجيوش وليس الأفراد.. تسلل أعداد غير قليلة من الفلسطينيين.. خاصة الذين ينتمون لحماس.. كيف نفسر ذلك كله؟!.. انتبهوا أيها السادة فليس مشروع الدولة الفلسطينية وحده فى خطر.. مصر أيضاً فى خطر.. لأن أحد السيناريوهات الإسرائيلية المحتملة للخروج من مشكلة الدولة الفلسطينية والتخلص من مخاطر اعتراف الأممالمتحدة بها.. إلقاء سكانها فى سيناء!.. اللهم إنى بلغت.. اللهم فاشهد!..