يمكن القول دون خوف من مبالغة أن مصر عاشت الأسبوع الماضى، والذى أعقب إجازة العيد.. على سطح صفيح ساخن.. أتمسك بعدم المبالغة ومع ذلك أقول إن درجة سخونة الصفيح سجلت أعلى ارتفاع لها منذ وقت طويل اتسم بالهدوء والاستقرار النسبى!.. عدد غير قليل من المدن والمحافظات شهدت عدداً كبيراً من الاحتجاجات والاضطرابات من بينها المحلة الكبرى والمنصورة وبنى سويف وأسوان.. المشهد فى أسوان على وجه التحديد كان مفزعا.. فهى المرة الأولى التى يعبر فيها أبناء النوبة (الطيبون) عن غضبهم بهذا العنف.. حرق وتدمير وإتلاف وفوضى!.. ثم حوادث العنف التى وقعت فى العديد من المرافق والمؤسسات.. مترو الأنفاق وشركة النصر للسيارات وشركة المياه ومجلس الدولة وغيرها.. فى نفس الوقت كانت هناك صدامات دموية بين أجهزة الشرطة وبين المواطنين.. مرة أمام مبنى أكاديمية الشرطة حيث يحاكم الرئيس السابق.. ومرة فى استاد القاهرة فى أعقاب مباراة لكرة القدم.. ويتزامن مع ذلك كله دعوة بعض القوى السياسية لاستبدال المجلس العسكرى بمجلس رئاسى مدنى وظهور دعوات على “الفيس بوك” للهجوم على المنشآت العسكرية!.. السؤال البديهى: إلى أين تقودنا هذه الأحداث.. لكن السؤال الأهم والمفيد هو: متى نقود نحن هذه الأحداث؟! عندما تقودنا الأحداث فنحن سائرون إلى مجهول لا نعرف ملامحه ولا نضمن نتائجه.. لكن عندما نقود نحن الأحداث فذلك يعنى أن نتحكم فيها ونكون قادرين على الوصول إلى الهدف الذى نعرفه ونريده!.. عندما تقودنا الأحداث وتتحكم فينا فإن العقل يغيب والحكمة تختفى.. وعندما نقود نحن الأحداث يصبح العقل وتصبح الحكمة.. طوق النجاة!.. بمثل هذا المفهوم وبهذا المنطق نمضى فى طريقنا نناقش ونحاور.. ونتأمل!.. وأبدأ بأحداث العنف التى شهدتها بعض المدن والمحافظات وبعض المرافق والمؤسسات والتى وصلت إلى درجة قطع الطريق وتدمير المنشآت وحرقها.. كلها بسبب مطالب فئوية.. لابد أن نفرق أولا بين المطالب السياسية والمطالب الفئوية.. المطالب السياسية لها علاقة مباشرة بمصالح أمة وشعب.. أما المطالب الفئوية فإنها تتعلق بمصالح محدودة لأعداد محدودة.. عشرات أو مئات.. أو بضعة آلاف على أكثر تقدير.. المطالب السياسية يتم التعامل معها على أنها مصلحة عامة بعكس المطالب الفئوية التى ينظر إليها على أنها مصلحة خاصة.. وليس هناك خلاف على أن مستقبل مصر وأية دولة فى العالم مرهون بتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.. ليس معنى ذلك تجريم المطالب الفئوية أو التعامل معها باعتبار أنها مطالب غير مشروعة.. العكس هو الصحيح فمعظم المطالب الفئوية مشروعة وصحيحة.. ثم إن معظمها مطالب متواضعة.. وظيفة أو مسكن أو مكافأة أو علاوة ودرجة!.. لكن هل تستطيع الحكومة الاستجابة لكل هذه المطالب الفئوية.. اليوم وليس غدا ولا بعد غد؟!.. الحكومة تتمنى وتحاول قدر إمكانياتها وإمكانيات الدولة أن تفعل لكن الواقع يقول إن الاستجابة الكاملة لكل المطالب الفئوية مسألة فى غاية الصعوبة إن لم تكن مستحيلة!.. أصحاب المطالب الفئوية أنفسهم يدركون ذلك.. يدركون أنه من المستحيل على الحكومة أن توفر مسكناً لكل من يستحق وأن توظف كل عاطل وأن تنصف كل مظلوم.. فى وقت واحد.. ومع ذلك لا تزال المطالب الفئوية مستمرة.. منذ قيام الثورة وحتى الآن.. أهم أسباب استمرارها هو طموح الكثيرين فى جنى مكاسب الثورة والتغيير.. غير مدركين أن جنى المكاسب يحتاج فترة زمنية طويلة نسبياً.. فى نفس الوقت فإن هناك انطباعاً سائداً وخاصة بين البسطاء الذين يمثلون السواد الأعظم بأن استعادة الأموال المنهوبة كفيلة بتحويل أصحاب الملاليم إلى أصحاب ملايين!.. المشكلة الحقيقية أن المطالب الفئوية بدأت تسلك طريق العنف والتدمير والخراب.. وبعد أن كانت تقتصر على التظاهر السلمى والاعتصام الذى لا يؤثر على الإنتاج.. أصبحت تخرب وتدمر وتكسر وتحرق وتقطع الطرق.. وتعطل الإنتاج!.. المسألة بهذا الشكل أصبحت تمثل خطراً على الجميع.. الشعب والأمة والوطن.. والأفراد.. فما هو المخرج؟!.. البعض يتحدث عن ديوان للمظالم يتولى تلقى كل مظالم الناس وشكواها ويعمل على تحقيقها.. لا بأس بالفكرة لكنها على أرض الواقع تبدو غير عملية.. فمن المستحيل عمليا أن يحقق جهاز واحد فى آلاف الشكاوى والمظالم التى ستمتلئ بها أدراج مكاتبه!.. الحل العملى أن يتولى كل محافظ فى محافظته هذه المسئولية ويعتبرها مسئوليته الأولى.. وعليه أن يوازن بين إمكانات محافظاته وطلبات أبنائها وأن يعمل قدر استطاعته على تحقيق هذه المطالب أو على الأقل الإعلان عن جدول زمنى واضح لتحقيقها.. والأهم أن يحاسب على برنامجه وجدوله الزمنى.. من المفترض طبعا أن يكون هناك تنسيق كامل وتواصل مستمر بين المحافظ والحكومة بحيث تتولى الحكومة تدبير الاعتمادات التى لن يقدر المحافظ على تدبيرها.. ولكى تحقق الفكرة هدفها فإنه يتعين على الحكومة أن تضع خطة خمسية للانتهاء من وضع حلول جذرية لكل مطالب الناس ومظالمها.. وبحيث يعرف كل مواطن أنه سيحصل على حقه - إن كان مشروعا - فى توقيت معلوم.. وفى المقابل يتعين على المواطن أن يكف فورا عن تحويل مسار المظاهرات الفئوية من سلمية إلى تخريبية وتدميرية.. فالتخريب والتدمير يزيد الطين بلة ويقلل فرصة الحكومة فى تحقيق مطالبه.. الإعلام عليه دور كبير فى توعية المواطن وتوجيهه للوجهة السلمية.. لكن النصيحة فى أحيان كثيرة لا تجدى.. وفى هذه الحالة يتعين على الحكومة والمجلس العسكرى أن يكونا أكثر حزم وحسم فى التعامل مع الذين يخربون ويدمرون ويعطلون الإنتاج.. خاصة أن هناك من يستغل المطالب الفئوية وينحرف بمساراتها.. مؤسسات الدولة ومصانعها ومرافقها خط أحمر.. وليس أى لون آخر!.. وأنتقل من خط أحمر إلى خط أحمر آخر!.. *** أصبح العداء مستحكما بين الشرطة والشعب!.. لا أقول كل الشرطة وكل الشعب لكننا أمام صدامات خطيرة بين أجهزة الشرطة وبين عدد من القوى السياسية التى تمثل جزءاً من الشعب.. صدامات تنذر بالخطر.. مشهد هذه الصدامات كان مروعا يوم الجلسة الثالثة لمحاكمة الرئيس مبارك ويوم مباراة كرة القدم التى أقيمت باستاد القاهرة بين فريقى الأهلى وكيما أسوان.. البعض أصبح يتعامل مع رجال الشرطة وكأنهم أعداء للوطن.. وفى المقابل فقد الكثير من رجال الشرطة - جنوداً وأمناءاً وضباطاً - قدرتهم على ضبط النفس.. ولا أبالغ لو قلت إنهم أصبحوا يتعاملون وكأن هناك ثأراً شخصياً بينهم وبين المواطنين.. خاصة من فئة الشباب.. الدور الذى قامت به أجهزة الأمن خلال الثورة وردود فعل الثوار.. كلها عوامل أدت لهذه النتيجة المؤسفة.. الدور الذى قامت به أجهزة الأمن يعكس خللا كبيرا لم ينشأ بين يوم وليلة وإنما حدث نتيجة تراكمات طويلة حولت مسار جهاز الشرطة.. من خدمة الشعب إلى خدمة النظام.. النظام السابق والقيادات العليا للشرطة مسئولة عن ذلك لكن من الظلم تحميل جهاز الشرطة بأكمله المسئولية.. خاصة أن «عقيدته» قائمة على إطاعة أوامر الرؤساء.. لابد من الاعتراف بأن أجهزة الإعلام وخاصة الفضائيات تلعب الدور الرئيسى فى زيادة الاحتقان بين الشرطة والشعب.. هل تقوم الفضائيات بهذا الدور المسموم بقصد أو بغير قصد؟.. هل تفعل ذلك بوعى أو بغير وعى؟.. هل تحاول هذه الفضائيات ركوب موجة الثورة؟.. هل تفعل ذلك فى إطار خطة ممنهجة لإشاعة الفوضى فى مصر؟.. لا أملك إجابات محددة لكن فى كل الأحوال النتيجة واحدة.. زيادة حالة الاحتقان بين الشرطة والشعب واستحكام العداء بينهما.. سمعت مدير أمن القاهرة اللواء محسن مراد فى مداخلة تليفونية مع إحدى مذيعات هذه الفضائيات.. الرجل يتكلم بمرارة ويؤكد أن رجال الأمن يتحملون مالا يطيقه بشر من استفزازات لأداء واجبهم.. وأن الشباب الذين يدخلون فى صدامات معهم مغرر بهم.. ويتساءل فى لوعة: ما الذى يعود علينا من ضياع مستقبل شبان يتعرضون للمساءلة القانونية؟.. ما الذى يفيدنا من كل هذه الدماء التى تسال؟!. المذيعة كعادة المذيعات فى هذه الفضائيات حاولت التشويش على كلام مدير الأمن.. وكأن مهمتها أن يطيش السهم الذى أطلقه لتحذير ضمير المجتمع!.. مذيعات هذه الفضائيات يفعلن ذلك باستمرار.. ويتناسين أنه يتعين عليهن - مهنيا على الأقل - أن يقفن على الحياد.. لكنهن لا يفعلن أكثر من التحريض وسكب مزيد من الزيت على النار!.. جاء الوقت لكى تتصدى الحكومة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة لهذه الفضائيات.. تتصدى بكل حزم وحسم وتضع فى اعتبارها.. مهما كانت النتائج أنه لا تهاون ولا تسامح مع الذين يحاولون تخريب استقرار مصر وتدمير أمنها.. وانتقل إلى آخر الخطوط الحمراء.. الجيش!.. *** أعلنت إحدى الجماعات المجهولة على موقع «الفيس بوك» عن خطة لاقتحام منشآت عسكرية بالإضافة إلى عدد من منشآت الدولة.. مجلس الشعب ووزارة الداخلية ومبنى الإذاعة والتليفزيون.. لا أحد يعلم بالضبط هوية هذه الجماعة المجهولة لكن الذى نعلمه جميعا أنه كانت هناك محاولات سابقة لاقتحام وزارة الدفاع قامت بها جماعة معلومة وليست مجهولة.. وتصدى لها الشعب قبل الجيش!.. الخطر أن تكون هناك خطة منظمة لوقوع صدام بين الجيش والشعب.. ساعتها لن نحصد جميعا إلا الخراب والدمار.. وسقوط مصر وتقسيمها!.. يتزامن مع ذلك دعوة تتبناها بعض القوى السياسية تطالب بتنحية المجلس العسكرى وترك مهمة قيادة البلاد لمجلس مدنى رئاسى.. لا أحد يتمنى أن يحكم «العسكر» مصر.. العسكر أنفسهم لا يريدون ذلك وقد أثبتت كل الأحداث التى شهدتها مصر منذ وقوع الثورة أن الجيش يعمل ويحلم باليوم الذى يعود فيه إلى ثكناته.. ومع ذلك فهناك فارق كبير وجسيم بين تسليم السلطة لرئيس مدنى منتخب وبين التخلى عن مهمة حماية البلاد وقيادتها فى هذه الفترة الانتقالية.. الفترة الانتقالية التى نعيشها الآن فترة دقيقة وحرجة يكتنفها الكثير من المخاطر.. ثم إننا محاطون بالخطر من كل جانب وما يحدث حولنا يؤكد أن هناك مؤامرة تستهدف المنطقة كلها.. ومن الطبيعى أن يستغل الذين يقفون وراء هذه المؤامرة أحداث الثورة فى مصر لضرب مصر!.. الجيش المصرى الذى لا يشك أحد فى وطنيته والذى انحاز للشعب من أول لحظة رغم أن الرئيس السابق ينتمى له.. هذا الجيش مسئول عن حماية البلاد وقيادتها إلى بر الأمان.. ومسئوليته تحتم عليه حماية حدود البلاد الخارجية وجبهتها الداخلية.. الغالبية العظمى من الشعب المصرى تؤمن بأن الجيش وقيادته ومجلسه الأعلى.. وحدهم القادرون على تحمل هذه المسئولية فى هذا التوقيت الصعب.. وأكاد أوقن بأنه لو جرى استفتاء بين المجلس العسكرى وبين مجلس رئاسى مدنى فإن 99% من الشعب سيختار المجلس العسكرى.. لأن ثقة الشعب فى جيشه بلا حدود.. وليس من حق أى قوة سياسية بعد ذلك أن تتكلم باسم الشعب!.. *** عاشت مصر الأسبوع الماضى على سطح صفيح ساخن وكان ذلك نتيجة محاولات البعض - بقصد أو بغير قصد - تجاوز الخطوط الحمراء.. وكما ذكرت فى البداية فإن الله وحده يعلم إلى أين تقودنا مثل هذه المحاولات.. وقد حان الوقت لكى نقودها نحن.. حان الوقت لكى نلجأ للعقل والحكمة!..