رغم أن القاضى لا يُمدَح ولا يُذَم، إلا أن ما تضمنته كلمة المستشار أحمد رفعت رئيس محكمة جنايات القاهرة فى بداية الجلسة الثانية لمحاكمة الرئيس المخلوع ونجليه الأسبوع الماضى من أن «للمدعين بالحق المدنى حق فى رقبتنا وكذلك المتهمون لهم حق أيضا فى رقبتنا».. يؤكد نزاهة وحيادية وعدالة هيئة المحكمة ورئيسها الذى يشهد له تاريخه القضائى بقدر ما يؤكد أيضا عدالة المحاكمة التى تجرى أمام القضاء الطبيعى، رغم مطالبات بإجرائها أمام محكمة ثورة استثنائية. ولعله ليس تكرارا، فإن مصر بهذه المحاكمة وأمام القضاء الطبيعى تقدم مثالا حضاريا لمحاكمة رئيس أسقطه شعبه بثورة سلمية أذهلت ديمقراطيات العالم وصارت مصدر إلهام لشعوب المنطقة التى ترزح تحت أنظمة حكم مستبدة قمعية فاسدة، وفى نفس الوقت فإن المحاكمة فى حد ذاتها تؤكد مصداقية المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى انحاز منذ اليوم الأول للثورة لمطالب الشعب التى وصفها فى بيانه الأول بالمشروعة، وكان ولايزال الضامن للثورة والحامى لها ولمكتسباتها. المفارقة هى أنه لو كانت الثورة قد فشلت وتمكّن مبارك من السيطرة على الأوضاع، فإنه كان سيفعل العكس تماما، ومن المؤكد أنه كان سيعدم العشرات بل المئات بتهم الخيانة وقلب نظام الحكم بأحكام عسكرية عاجلة، وهو نفس المصير الذى كان ينتظر قيادات الجيش ممثلة فى أعضاء المجلس الأعلى وهو ما أفصح عنه الفريق سامى عنان نائب رئيس المجلس أكثر من مرة بقوله إنه «كان سيتم تعليقنا على باب زويلة»! ذلك هو الفارق بين نهج حاكم ونظام حكم فاسدين وبين نهج وفلسفة ثورة شعبية بحماية جيش وطنى لإرساء قيم الديمقراطية والعدالة وسيادة القانون حتى مع من أهدر القيم وانتهك القانون والدستور وقمع شعبه وأفقره وأمرضه وخان النظام الجمهورى الذى أقسم على الحفاظ عليه. *** غير أنه تبقى بعد الملاحظات المهمة التى يتعّين التوقف أمامها مليا وبكل قوة باعتبار أنها وثيقة الصلة بالمحاكمة ذاتها.. أولها وأهمها: أن ما يجرى خارج قاعة المحكمة قبل دخول المتهمين قفص الاتهام وبعد رفع الجلسة يتنافى تماما مع عدالة المحاكمة داخل القاعة ومع العدالة بوجه عام. إنه مما يتنافى مع العدالة وسيادة القانون أن يتمتع المتهمون.. مبارك ونجلاه والعادلى ومساعدوه بهذه الحظوة الخاصة والمعاملة الاستثنائية المتميزة وكأنهم مازالوا فى مناصبهم وليسوا متهمين محبوسين احتياطيا فى محاكمة جنائية. كيف يسمح للمتهم علاء مبارك بالتجول حرا طليقا داخل أروقة وطرقات المحكمة ويقف فى انتظار وصول أبيه المتهم الأول ويضع يده على عدسة كاميرا التليفزيون ليحجب مشهد خروجه من سيارة الإسعاف، ثم كيف يحظى حبيب العادلى السجين بذلك الاستقبال الرسمى من جانب ضباط الشرطة وقيامهم بتأدية التحية العسكرية له رغم تعليمات منصور العيسوى وزير الداخلية بعدم تكرار هذه التصرفات! هذه التصرفات التى تعد نوعا من الانفلات الأمنى مضافا إليها الإقامة الفندقية «الخمس نجوم» فى سجن طرة والتى لاتزال مستمرة رغم نقل مدير السجن وتعيين آخر.. هذه التصرفات تمثل خصما كبيرا من العدالة وانتهاكا لسيادة القانون وتمييزا مستفزا وصادما لمتهمين يحاكمون أمام محكمة جنايات! *** ثم إن هناك التباسا كبيرا تتحمل مسئوليته النيابة العامة فيما يتعلق بلائحة الاتهام ومحاكمة مبارك بتهم التربح وقتل المتظاهرين وتصدير الغاز، بينما يحاكم نجلاه بتهمتى التربح واستغلال النفوذ. وإذا كانت المحكمة قد وافقت على ضم قضيتى مبارك ونجليه والعادلى ومساعديه، فإن من حق الرأى العام أن يسأل لماذا لم تقم النيابة العامة بإحالة مبارك وكل رموز وأركان نظامه المتهمين إلى محاكمة واحدة فى قضية واحدة على ما ارتكبوه من جرائم تزوير لإرادة الأمة فى الانتخابات وفساد مالى واقتصادى وأمنى وزراعى وصناعى وتعليمى وصحى ولا نقول وسياسى أيضا أننا لسنا بصدد محكمة ثورة، وباعتبار أن كل تلك الجرائم مجتمعة ارتكبها النظام السابق.. رئيسه وأركانه، وبسببها قامت ثورة 25 يناير. *** وفى نفس الوقت فإن تقديم مبارك للمحاكمة الجنائية بتهم التربح وتصدير الغاز وقتل المتظاهرين حسبما جاء فى لائحة الاتهام التى أعدتها النيابة العامة.. بدا اختزالا كبيرا لمجمل الاتهامات الموجهة إليه من جانب الثوار وجموع المصريين بارتكاب قائمة طويلة من الجرائم فى حق الشعب والوطن طوال ثلاثين سنة. ولذا فإن هذا الاخترال من شأنه أن يثير التوجّس من إفلات مبارك من العقوبة الجنائية وحصوله على البراءة فى تلك الاتهامات بفعل براعة محاميه فريد الديب المعروفة فى استغلال الثغرات القانونية وتضارب أقوال الشهود وغير ذلك من الحيل القانونية التى تشكك فى ثبوت أدلة الاتهام. إن حدث ذلك وهو أمر وارد قانونيا وقضائيا فى حالة عدم ثبوت الأدلة القطعية، فإن صدمة الرأى العام وشباب الثورة وجموع المصريين ستكون قاسية، وهو الأمر الذى يؤكد خطأ تقديم مبارك للمحاكمة على تلك الاتهامات المختزلة وإغفال عشرات الاتهامات الأخرى فى لائحة الاتهام. إن اختزال الاتهامات الموجهة لمبارك وتجزئة قضايا ومحاكمات أركان ورموز نظامه والمعاملة التمييزية لهم من جانب الشرطة وسجن طرة بالمخالفة للقانون مضافا إليها توجس الرأى العام من نتيجة المحاكمة.. كل هذه الملابسات التى تحيط بالمحاكمة من شأنها أن تدفع الكثير إلى القول بأنه كان يتعين محاكمة مبارك وأركان نظامه أمام محكمة ثورة مثلما يحدث بعد الثورات. *** واقع الأمر فقد بدا أنه مثلما حدث الارتباك الذى تبدّى فى المشهد السياسى بعد إسقاط مبارك ونظامه ولاتزال بعض تداعياته قائمة ومستمرة، فإن هذا الارتباك حدث أيضا فى التعامل القانونى والقضائى من جانب النيابة العامة بشأن توجيه الاتهامات، وحيث بدا أيضا أن ثمة غيبة لخريطة طريق واضحة للمحاكمات أو على نحو أدق لتوجيه الاتهامات، وعلى النحو الذى اتضح فى لائحة اتهام مبارك وفى تجزئة المحاكمات وتشتتها بين عدة قضايا ودوائر قضائية. ولست أدرى إن كان من الجائز قانونا ودون افتئات على اختصاصات وسلطات النيابة العامة مطالبتها بإزالة ما بدا من التباس وإعداد خريطة طريق واضحة لتلك المحاكمات بحيث تتلافى الاختزال والتجزئة وبحيث تتم محاكمة جميع المتهمين.. مبارك وأركان نظامه أمام محكمة واحدة وفى قضية واحدة. *** تبقى ملاحظة أخرى ولعلها ليست أخيرة تتعلق بالمحامين عن المدعين بالحق المدنى من أهالى شهداء ومصابى الثورة الذين تبدىّ ضعفهم المهنى الشديد بقدر ما أفسدوا المشهد داخل قاعة المحكمة بتصارعهم العشوائى على الحديث وتقديم الطلبات أمام كاميرات التليفزيون.. طلبا للشهرة بأكثر من الحرص على أداء مهتهم، وهو مسلك يلحق أكبر الضرر بحقوق المدعين، وتسبب فى قرار المحكمة بوقف بث جلسات المحاكمة تليفزيونيا. الأمر الآخر والمهم فى هذا الصدد هو ما نّبه إليه بعض كبار المحامين وأساتذة القانون من أنه لا ضرورة ولا داعى لحضور هؤلاء المحامين باعتبار أن القضية منظورة أمام محكمة الجنايات، ومن ثم فإن أطرافها ثلاثة فقط هم: المحكمة والنيابة والمتهمون ودفاعهم، أما الادعاء بالحق المدنى فمكانه محكمة مدنية وهو أمر لاحق لانتهاء المحاكمة الجنائية وفصل المحكمة فى الدعوى وإصدار أحكامها.