حرب المليونيات! لابد من الاعتراف بأن ميدان التحرير الذى ظل على امتداد الشهور الستة الماضية رمزا لثورة 25 يناير.. ولابد من الاعتراف أيضاً بأنه أصبح مؤخراً الساحة الرئيسية للصراع الذى يدور الآن بين التيارات والقوى السياسية المختلفة.. المفارقة أن الميدان تحول إلى ساحة للصراع والفرقة والانقسام يوم المليونية التى حرص الجميع على اختلاف انتماءاتهم على تسميتها جمعة ((لم الشمل))!.. وليس خافياً أن الصراع داخل ميدان التحرير.. وربما على ميدان التحرير.. هو صراع بين مؤيدى الدولة المدنية والإسلاميين.. وإذا كان العنوان الرئيسى لهذا الصراع هو شكل الدولة المصرية فى المستقبل القريب والبعيد.. فإن حقيقته وموضوعه هو صراع على السلطة!.. من يفوز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان القادم؟.. من يكتب الدستور ويصيغ مبادئه؟.. ومن يحكم؟!.. ويأتى الصراع داخل ميدان التحرير أو على ميدان التحرير من الاعتقاد بأن التيار السياسى القادر على حشد عدد أكبر فى التظاهرات المليونية هو القادر على حسم الصراع لصالحه.. وليس ذلك صحيحاً.. بل إنه ليس من قبيل المبالغة القول بأن هذا الاعتقاد قد يأتى بنتائج عكسية!.. وليسمعنى أن الصراع داخل ميدان التحرير أو على ميدان التحرير يدور بين تيارين رئيسيين هما التيار المؤيد للدولة المدنية وتيار الإسلاميين.. ليس معنى ذلك أن المصريين أو حتى معظمهم يمكن تصنيفهم تحت هذين المسميين.. فالحقيقة أن تصور ذلك يعتبر تبسيطا للأمور يخل بالحقيقة وبالمعنى!.. أنصار ومؤيدو الدولة المدنية ليسوا فريقا واحدا كما يظن البعض.. وكذلك التيار الإسلامى.. وإنما هى تحالفات المصالح ومناورات لعبة السياسة.. ومن طبيعة المصالح أن تتغير ومن طبيعة المناورات أن تكون مؤقتة!.. أخشى أن يأخذ القارئ انطباعاً بأننى أحاول أن أشده إلى منطقة غامضة .. ولذلك أسارع وأقول إن أنصار ومؤيدى الدولة المدنية ومنهم العلمانيون ومنهم الناصريون ومنهم اليساريون والليبراليون وغيرهم.. هؤلاء جميعاً قد تجمعهم فكرة مدنية الدولة.. لكن الحقيقة أن هناك تناقضات هائلة بينهم!.. وهذه التناقضات الموجودة والقائمة يمكن أن تجعلهم يتحولون من حالة التحالف والتوافق إلى حالة الصراع.. أصحاب التيار الإسلامى كذلك.. ليسوا فريقا واحدا!.. فهناك الإخوان وهناك السلفيون وهناك الصوفيون وهناك جماعات إسلامية أخرى منها المتشدد والمتطرف.. وإذا كانوا جميعا يندرجون الآن تحت مسمى الإسلاميين فإن ذلك لا يمنع من أن هناك أيضاً تناقضات هائلة بينهم.. وهذه التناقضات أيضاً يمكن أن تجعلهم يتحولون من حالة التحالف والتوافق إلى حالة الصراع!.. وإذا كنا اتفقنا على أن غالبية المصريين لا ينتمون إلى أى من هذين التيارين الرئيسيين فإن انحياز هذه الغالبية لواحد من هذين التيارين ليس معناه أنهم يؤمنون بمبادئه وإنما لأن لهم تخوفات وتحفظات على التيار الآخر!.. *** مرة أخرى أخشى أن يكون انطباع القارئ أننى أشده إلى منطقة غامضة.. ولذلك أسارع وأقول إن هناك كثيرون ممن يطلق عليهم اسم الأغلبية الصامتة لا ينتمون إلى حزب سياسى أو حركة أو تيار.. لكنهم يميلون إلى تأييد فكرة الدولة المدنية.. ليس لسبب إلا لأنهم يخافون من العيش فى مجتمع يحكمه ويتحكم فيه الإسلاميون.. بعد أن شاهدوا بأنفسهم ممارسات للإسلاميين لا تطمئن ولا تبشر بالخير!.. فى المقابل هناك أيضاً كثيرون ينتمون إلى نفس الأغلبية الصامتة وليسوا مؤمنين بالتيارات الإسلامية.. ومع ذلك أصبحوا يؤيدونها.. ليس عن إيمان بفكرتها ونظريتها وإنما لأنهم شاهدوا بأنفسهم بعض التيارات السياسية تتحكم بصوتها العالى فى ميدان التحرير وتضع نفسها فى مقعد الوصاية على الشعب المصرى.. أضرب مثلاً.. فعلى الرغم من أن تظاهرة السلفيين يوم جمعة لم الشمل قد أصابت الكثيرين بالخوف والذعر من هذا التيار الذى يريد أن يأخذ مصر بعيداً عن كل المبادئ المتوافق عليها كحق المواطنة وغيرها.. فإن هناك كثيرين أيضاً أيدوا التيار السلفى لأنه من وجهة نظرهم استطاع أن يتصدى لديكتاتورية بعض التيارات السياسية التى استولت على ميدان التحرير وأصبح وكأنها هى التى تحكم مصر!.. كثيرون لم يعجبهم أن يغلق متظاهرو التحرير مجمع التحرير ويحاولون إغلاق قناة السويس ويحاولون اقتحام وزارة الدفاع.. ويعترضون على كل من يختاره رئيس الوزراء أو المجلس العسكرى.. كثيرون أصابهم الخوف من هذا التيار السياسى الذى احتكر ميدان التحرير لنفسه.. ولذلك أيدوا التيار السلفى لأنه من وجهة نظرهم أحدث نوعا من التوازن داخل ميدان التحرير وتصدى لديكتاتورية التيارات السياسية التى تحكمه!.. باختصار الغالبية العظمى من المصريين ليست لهم انتماءات حزبية وسياسية.. وليسوا أيضاً مؤمنين بأفكار الإسلاميين الذين يريدون أن يأخذوهم إلى مناطق التشدد والتطرف.. لكنهم يجدون أنفسهم مؤيدين لواحد من هذين التيارين: السياسيين الذين يتحدثون عن دولة مدنية أو علمانية.. والإسلاميين الذين يرفضون المواطنة ويطالبون بتطبيق الشريعة.. ليس عن إيمان بأفكار ومبادئ أى تيار من الاثنين.. وإنما لأنهم يخافون من أفكار ومبادئ واحد من التيارين.. ليس حبا فى زيد وإنما كرها فى عمرو.. كما يقولون!.. كل ذلك انعكاسا لتظاهرات المليونيات التى أصبح ضررها أكثر من نفعها بكثير!.. *** كلنا يعرف أن جماعة السلفيين نظمت مليونية جمعة 29 يوليو الماضى واستطاعت الاستيلاء على ميدان التحرير.. وكانت النتيجة فزع الكثيرين من التيار الإسلامى.. مع الاعتراف بأن كثيرين أيضاً أيدوا السلفيين لأنهم - كما ذكرت - أنهوا احتكار ميدان التحرير.. وكلنا يعرف أن مؤيدى الدولة المدنية يرتبون لتظاهرة مليونية يردون بها على مليونية السلفيين والتى اختاروا لها اسم «فى حب مصر».. وحتى تاريخ كتابة هذه السطور لا أعرف إن كانت ستقام يوم الجمعة 12 أغسطس كما كان مقررا لها أم سيتم تأجيلها أسبوعاً آخر.. فى كل الأحوال ستكون مليونية حب مصر ردا على مليونية السلفيين.. وسوف تجد هذه المليونية من سيؤيدها ويشترك فيها من الغالبية العظمى.. خوفا من السلفيين.. لكن فى نفس الوقت ستجد أيضاً الكثيرين من الغالبية العظمى وخاصة من البسطاء من سيرفضها باعتبارها موجهة ضد الدين أو ضد الإسلام!.. وليس من المستبعد أن يعود السلفيون وباقى التيارات الإسلامية لتنظيم مليونية جديدة يردون بها على مليونية «فى حب مصر».. وهكذا نجد أنفسنا ندور فى إطار دائرة مغلقة من المليونيات والمليونيات المضادة.. وهكذا يمكن أن يتطور الأمر لما هو أخطر فيقع الصدام بين أصحاب هذه المليونيات والمليونيات المضادة.. فكيف نخرج من هذه الدائرة المغلقة؟.. وما هو البديل؟!.. *** بعض الأصوات العاقلة من الجانبين.. من التيار الإسلامى ومن التيار المؤيد للدولة المدنية بدأوا يتحدثون صراحة عن أن المليونيات أصبحت مضيعة للوقت والجهد وتؤدى إلى مزيد من الانقسامات وتنذر بمصادمات.. بعضهم قال صراحة إن هذه المليونيات تعطل مصالح الشعب وتضره.. خاصة أنه لم يعد هناك ما يبررها.. فمعظم مطالب الثورة تقريباً تم تحقيقها أو فى طريقها للتحقيق.. محاكمة النظام السابق وعلى رأسه الرئيس مبارك.. المحاكمات علنية.. تغيير الوزراء والمحافظين الذين ينتمون للنظام السابق.. عزم الحكومة على تطهير كل مؤسسات الدولة من الفساد السياسى.. هناك أيضاً محاولات جادة لتعديل قانون الانتخابات طبقا لتوافق القوى السياسية المختلفة.. هناك نية لإلغاء حالة الطوارئ قريبا.. الحكومة ستقوم أيضاً بفتح ملفات الفساد فى قطاع الأعمال.. هناك جهود مشتركة حقيقية وملموسة للحكومة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة لتحويل مصر إلى دولة مدنية حديثة وقوية.. فما هو الداعى لأى مليونيات جديدة؟!.. ولماذا لا يكون البديل هو انشغال التيارات السياسية المختلفة إسلامية وغير إسلامية باستحداث برامج جديدة وأفكار طموحة لتقديم خدمات حقيقية للمصريين.. لتوعيتهم سياسيا ومساعدتهم اقتصاديا وتطويرهم اجتماعياً؟!.. أليس ذلك أفضل وأجدى من المليونيات.. وحرب المليونيات؟!.. *** ينسى الكثيرون أو يتناسون أن الغالبية العظمى من الشعب المصرى تسعى إلى مجرد العيش الكريم.. ينسى الكثيرون أو يتناسون أن المصريين لن يختاروا الذين يتظاهرون من أجلهم وإنما سيختارون الذين يعملون من أجلهم.. لماذا لا نبدأ جميعا فى العمل من أجل مصر؟.. لماذا نتصور أن حشد الناس فى ميدان التحرير أكثر فائدة وجدوى من حشدهم فى ميادين العمل؟!..