لأنه لا خلاف على أن حالة الانفلات الأمنى هى المشكلة رقم (1) فى مصر حالياً وهى أيضاً الخطر الأول والأكبر الذى يهدد اكتمال نجاح ثورة 25 يناير، لذا فإن الحفاظ على مكتسبات الثورة يبقى مرهونا باستعادة كاملة للأمن وعودة أجهزة الشرطة بكامل طاقاتها وقدراتها إلى ممارسة مهمتها الوطنية فى حماية الأرواح والممتلكات ومنع الجريمة وردع المجرمين وفرض هيبة الدولة وسلطتها وإعمال القانون.. ضماناً لتحقيق الاستقرار السياسى والاقتصادى والاجتماعى.. وصونا لأمن الوطن والمواطنين. وسواء كان هذا الانفلات الأمنى ووفقا لنظرية المؤامرة بفعل فاعل وفاعلين من بقايا النظام السابق وجهاز أمن الدولة المنحل وذيول حبيب العادلى وزير الداخلية الأسبق والمسجون حالياً بعد إدانته بالتربح من منصبه والمتهم فى قضية قتل الثوار وعقوبتها الإعدام، أو كان الانفلات بحكم غيبة الشرطة عن الشارع بكامل طاقتها، فإنه يُعدّ فى الحالتين مظهرا من مظاهر فقدان الدولة لسلطتها وهيبتها.. وخطرا داهما محدقا بالثورة وبمصر كلها. *** قد يكون مفهوماً وربما مبرراً حدوث بعض الانفلات الأمنى والفوضى والاضطراب فى أعقاب الثورة مثلما يحدث دائماً فى كل الثورات، وقد يكون مفهوماً أيضاً أن تتغير سلوكيات شرائح اجتماعية بعينها بعد الثورة وتنزع إلى ممارسة العنف والعدوانية وتحدى السلطة وانتهاك القانون كرد فعل لما عانته من قهر وظلم وقمع وفقر فى زمن النظام السابق وخاصة فى السنوات العشر الأخيرة. ولكن أن تتحول هذه السلوكيات المنفلتة إلى ظاهرة مستمرة ومتزايدة، فذلك مالا يمكن تفهمه أو قبوله لأى سبب وتحت أى مسمى أو شعار حتى لو كان تحت شعار الثورة، إذ أن الثورة كحدث هى سلوك سياسى حضارى يستهدف التغيير والإصلاح وتحقيق العدالة وسيادة القانون، ومن ثم فهى ليست ولا يتعين أن تكون مظلة للفوضى والانفلات والخروج على القانون. إن من بين أهم أهداف ومطالب الثورة بل مكتسباتها أيضاً.. استعادة المواطن المصرى لحريته وكرامته التى صادرها النظام السابق وأهدرتها آلته الأمنية القمعية، غير أن الحرية ليست مطلقة دون حدود أو قيود، باعتبار أن حرية أى مواطن تتوقف عند حدود حريات الآخرين ومصالح الوطن العليا، وبالمثل فإن الكرامة لا تعنى إهدار كرامة الآخرين أو كرامة الوطن والدولة. هذه البديهيات تاهت وسط أجواء الاضطراب والانفلات الأمنى التى تسود مصر فى الوقت الراهن وتحت لافتة الثورة.. وهى بريئة كل البراءة من تلك السلوكيات. *** ومن بين كافة مظاهر الانفلات الأمنى المتفشية فى مصر فى الوقت الراهن، فإن ظاهرة البلطجة تعد الأخطر على الإطلاق، إذ أن هذه الظاهرة والتى بدا أنها تتصاعد وتستفحل من شأنها إدخال البلاد فى نفق مظلم من الفوضى والاضطراب وانهيار الأمن تماما وعلى النحو الذى يهدد بانهيار الدولة ذاتها. وإذا كنا نعوّل كثيرا على الشرطة بعد عودتها بكامل قدراتها فى التصدى لمظاهر الانفلات الأمنى وهو مالم يحدث حتى الآن ويبدو أنه سيتأخر كثيراً، فإن التصدى لظاهرة البلطجة وردع جحافل البلطجية الذين تصل أعدادهم فى أقل التقديرات إلى أكثر من (60) ألف بلطجى يعد مهمة أكبر من قدرات أجهزة الأمن والشرطة سواء بأوضاعها الحالية أو فى المستقبل القريب، وذلك بالنظر إلى حجم الظاهرة.. كما وكيفا والتى تتطلب مواجهتها تجييش كتائب عسكرية، باعتبار أن أعداد البلطجية وشراستهم الإجرامية تستلزم خوض معركة حربية. ولعله ليس سرا فإن هؤلاء البلطجية كانوا ومازالوا بمثابة ميليشيات مدينة للنظام السابق وحزبه المنحل تحت إشراف جهاز أمن الدولة المنحل، وحيث كان يجرى استخدامهم فى جرائم تزوير الانتخابات طوال العشرين سنة الأخيرة، مثلما كان يتم استخدامهم أيضاً كمرشدين لأجهزة الأمن وفى كثير من الأعمال القذرة لترويع المواطنين. ولذا فإنه من المؤكد أن ممارسات هؤلاء البلطجية فى النهب والسرقة والاغتصاب والقتل والترويع تتم لحساب النظام السابق وبتمويله لإشاعة الفوضى وزعزعة الأمن فى سياق الرغبة فى الانتقام من الشعب الذى أسقط ذلك النظام وذلك بالتآمر لإسقاط الدولة ذاتها.. ردا على إسقاطه! ومما يؤكد نظرية المؤامرة أن البلطجة لم تعد مقصورة فقط على القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدن الكبرى، ولكنها امتدت إلى كافة أرجاء مصر وفى القرى والنجوع، بل لم تعد موجهة فقط إلى الأشخاص أو بقصد السرقة والنهب، ولكنها تستهدف مرافق الدولة الحساسة حسبما حدث الأسبوع الماضى فى منطقة كهرباء «الكريمات».. أكبر محطة فى مصر وحيث حاصر عشرات البلطجية هذه المحطة لمنع العاملين من الدخول! ثم إنه حين تمتد أعمال البلطجة إلى المستشفيات العامة وضرب الأطباء وجهاز التمريض وترويع المرضى ونهب المعدات الطبية، وحين يبسط البلطجية سطوتهم على شوارع وأحياء كاملة خاصة فى المناطق الشعبية والعشوائية ويفرضون الإتاوات على المواطنين ويقتلون ويسحلون من يرفض الخضوع لجبروتهم، فإنه من غير الممكن إغفال نظرية المؤامرة والتى تستهدف إسقاط هيبة الدولة بل إسقاط الدولة ذاتها! *** إن ما يرتكبه البلطجية من جرائم وما تثيره ظاهرة البلطجة من فزع وترويع وزعزعة للأمن والاستقرار طوال الأشهر الأخيرة ومنذ سقوط النظام السابق.. ليس سوى رسالة من بقايا ذلك النظام بأن البلطجة والانفلات الأمنى هما البديل والنتيجة لسقوطه، وهى ذات الرسالة التى تضمنها خطاب الرئيس المخلوع قبل تنحيه حين هدد بأن الفوضى ستكون البديل إذا أصر الشعب على رحيله وإسقاطه! ولعله بات مؤكداً أن تقاعس النظام السابق وحكوماته وبرلمانه عن إصدار قانون مكافحة البلطجة كان متعمدا، ولا تفسير لذلك التقاعس سوى أن ميليشيات البلطجية كانت من إنتاجه وتعمل فى خدمته ضد الشعب، وهاهو ذا يعيد استخدامها مرة أخرى بعد سقوطه فى محاولة لإفشال الثورة ونشر الفوضى وإسقاط الدولة. *** إن ظاهرة البلطجة وجرائم البلطجية لا تقل خطراًعن الإرهاب وجرائمه، وإذا كان الإرهاب الذى شهدته مصر فى ثمانينات وتسعينات القرن الماضى يوجها فى الأساس ضد النظام السابق، فإن البلطجة إرهاب جديد موجه فى الأساس ضد الشعب وضد ثورة 25 يناير.. مستهدفا أمن المواطنين وأمن الوطن واستقرار الدولة. *** يبقى أمران.. الأول هو أن القضاء على ظاهرة البلطجة يتطلب ودون أدنى مبالغة شن حرب شرسة يخوضها جيش مصر الوطنى بمعاونة من الشرطة، وهى حرب سوف ينتصر فيها الجيش الذى انتصر فى حرب أكتوبر وحرر سيناء من الاحتلال وأعادها إلى السيادة المصرية، وذلك لتحرير المجتمع المصرى من إرهاب البلطجة وسطوة البلطجية، وتلك المهمة الوطنية جزء لا يتجزأ من دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى هذه المرحلة الانتقالية لحماية الثورة والحفاظ على مكتسباتها. الأمر الآخر هو أنه إذا كانت ظاهرة البلطجة باعتبارها أخطر مظاهر الانفلات الأمنى هى المشكلة الأولى والأكبر فى الوقت الراهن، فإن الحل هو تطبيق عقوبة الإعدام وتنفيذها علنا على كل من يمارس جرائم وأعمال البلطجة، وذلك هو الحل الرادع لإنهاء هذه الظاهرة فورا ولاستعادة الأمن.. أمن الوطن والمواطنين.. وأيضاً للحفاظ على هيبة الدولة.