الرهان الأخير الباقى لإنقاذ هذا البلد هو « وعى الناس».. المصريون ليسوا «سذج» إلى هذه الدرجة .. أقل فلاح أو عامل أو بائع «سرّيح» يفك الخط بالكاد يفهم ما يحدث فى مصر الآن أكثر من الأخ روبرت فيسك المراسل الإنجليزى الأشهر لصحيفة الإندبندنت البريطانية. بكل الجوائز التى حصل عليها من الغرب وبكل خبراته السابقة التى كونها من تطوافه فى بلدان الشرق الأوسط.. كل هذه الخبرة لن تتيح له أن يعرف مصر كما يعرفها أبناؤها ويحفظونها فى جيناتهم الوراثية، وهو حين يتعامل مع الحالة المصرية فهو ليس أكثر من « حانوتى» يتعامل مع «حتة شغل» يحملها ويدفنها ويهيل عليها التراب دون أن تجود عيناه بدمعة واحدة من دموع أهل المتوفى. روبرت فيسك يكتب فى صحيفته الانجليزية بعقل الحانوتى البارد عن الغضب الذى يتصاعد فى ميدان التحرير وتردد خلفه «الشروق» الصحيفة المصرية : آمين.. وكأنها تشاركه فى تشييع مصر إلى مثواها الأخير. (1) مضطرون أن نلاحق الأحداث وأن نهرول من ميدان التحرير إلى السويس إلى القناة أو سيناء لإطفاء الحرائق التى يهدد البعض بإشعالها فى البشر والممتلكات.. مضطرون أن نكتب وصفا للأحداث حيث لا يتيح لنا الوقت أن نقف لحظات لنتأملها أو نحللها أو نلتقط أنفاسنا لإصلاح ما يمكن إصلاحه أو تعديله منها.. لماذا؟ لأن هناك من يصر إصراراً يغيظ على أن يقفز على السلطة ويحول اتجاه البلد إلى الوجهة التى يريدها هو ، مرة باسم الديمقراطية، ومرة باسم التقدم والرقى والتبشير بالجنة الموعودة على الأرض وأخيراً باسم القصاص لدماء الشهداء واقتناص حق الفقراء.. هؤلاء الذين ينصّبون من أنفسهم أوصياء على الثورة وعلى الشعب المصرى ويحتكرون لأنفسهم - وهم الأقلية - حق القيادة واقتسام السلطة فيما بينهم، وكأنهم يقسمون قطعة أرض فى الصحراء لا صاحب لها، ولا يكفون عن الصراخ عبر أبواقهم بلغتهم الاستعلائية فيكشفون عن مرض نفوسهم الذى طالما رموا به آخرين من قبل. (2) عمن أكتب؟! أكتب عن الذين ينادون بالديمقراطية ويتصرفون بمنتهى الديكتاتورية، أكتب عن الذين يتاجرون بآلام البسطاء ودماء الشهداء الآباء والأمهات الثكالى ويستغلونهم فى صراعهم على السلطة وقطع الطريق على خصومهم وغرمائهم.. أكتب عن الذين يتلقون تمويلات من الخارج لوضع دستور مصرى يمهد الطريق لجيوش العولمة وتمرير إسرائيل فى بلادنا، أكتب عن الذين يهددون بتعطيل الملاحة فى قناة السويس أو تشكيل كتائب مسلحة لخطف مصر الذين يتصورون أنفسهم أو يصورونها على أنها سفينة نوح ولا يرون أنفسهم فراعين صغار لا يختلفون فى غيهم عن أسلافهم فى الحزب الوطنى.. عن أحمد عز الذى اتهم خصوم الحزب الوطنى قبل الثورة بأسابيع قليلة بأنهم خصوم مصر وأعداء الوطن ووسمهم بعدم التسامح السياسى فهل تتلبس الآن الضحية دور الجلاد فى تبادل للأدوار؟! أكتب عن الذين يريدونها ملطمة ومناحة وحربا أهلية لتحقيق أغراضهم. (3) روبرت فيسك زار القاهرة خلال الأسبوع المنقضى وسمع ممن يريد أن يسمع لهم ونقل عن الذين يتوافق كلامهم مع ما يعتقده هو عن وظيفة الصحافة التى يرى أنها لابد أن تتحدى السلطة، كل سلطة وأى سلطة، وحسب قناعاته فإن السلطة التى يجب أن تتحداها الآن الصحافة هى المجلس العسكرى.. هل هذه قناعة فيسك فقط أم قناعة «المصرى اليوم» و«الشروق» و«العاشرة مساء» وقناة «أون تى فى» وكل من يطرحون أنفسهم ليبراليين جدد ويؤمنون بإسقاط الدولة من عليائها ليقتصر دورها فقط على الحماية الشخصية لهم من البلطجية والمتطفلين وكل الفلول المنحلة بينما يمارسون هم حرية الغريزة بالطريقة التى تروق لهم؟! على هذه الخلفية رأى المراسل الإنجليزى الأشهر لمنطقة الشرق الأوسط مصر ونشر مقالا بتاريخ الثلاثاء الماضى (12/7) كتب فيه أن الفوضى تزحف فى شوارع المدن المصرية كل ليلة وأن الطائفية تزدهر فى الظلام، وأن رجال الشرطة يعودون لأساليبهم القذرة.. وأن عاصمة مصر حقا بهذا السوء.. يكتب فيسك هذا بينما أرى فى اليوم التالى لنشر المقال فى «الإندبندنت» بعينى رأسى عشرات الباصات المحملة بالسائحين عند نهاية شارع الهرم حوالى الساعة الثانية ظهراً وأنا أريد أن أخرج من جلدى بسبب حرارة الشمس.. وهو ما يدحض بشدة أكذوبة أن القاهرة أو مصر بهذا السوء الذى حاول أن يصوره فيسك بعين كليلة طلت على زاوية ضيقة جدا للمشهد. يكتب الأخير وتنقل عنه صحيفة الشروق الليبرالية: «المجلس الأعلى للقوات المسلحة يغازل الإسلاميين الشبان من السلفيين والإخوان، ويفتح حوارا دائما معهم بينما يتجاهل الليبراليين والفقراء الذين أسقطوا مبارك بالفعل.» انتهى. وفى الفقرة السابقة المؤلفة من 22 كلمة تستطيع أن تكتشف كما هائلا من المغالطات المتعمدة بداية من اتهام المجلس بفعل الغزل الذى لم يأته وليس هناك دليل على نسب الثورة لليبراليين والفقراء، فى إقصاء واضح لملايين المصريين الذين شاركوا فيها منذ اندلاعها وحتى الساعة. وفى نفس اليوم فى جريدة أخرى موازية فى التوجهات، منافسة على فرشة «البياعين» يطالعنا تقرير خبرى آخر مثير عنوانه يشير إلى قنابل الغاز التى تسبب السرطان والموت.. وثمن القنبلة 25 دولارا: هل يكفيك العنوان لاستقبال انطباع استفزازى عن «الكفرة» أم تحتاج أن تقرأ المتن لتعرف أن المقصودين هم قوات الأمن التى ألقت قنابل غاز على المتظاهرين يوم الثلاثاء 28 يونيو، واكتشف نشطاء عن طريق الانترنت وفوارغ القنابل أنها تسبب السرطان وأن الشركة التى تنتجها ترفع أمام مقرها العلم الإسرائيلى وتختم الجريدة التقرير المكون من حوالى 500 كلمة بهذه الفقرة العجيبة. «وحسب البحث، فإن الشركة تبيع القنبلة الواردة بسعر 25 دولاراً ، وأكدت الدراسة أن استنشاق الهواء الطلق والأكسجين عند الحاجة، وغسل العينين بالمياه العذبة، وغسل الجلد بكميات وفيرة من المياه قد يقى من تأثيرات الغاز، حسب الدراسة التى لم يتسن ل«المصرى اليوم» التأكد من دقة معلوماتها من مصادر طبية مستقلة» انتهى. ما هى الرسالة التى يحملها هذا التقرير أو على الأقل يوحى بها؟! وماذا يجدى التنصل من التفاصيل التى أغرق فيها القارئ بعدة كلمات لن تغنى عما علق بذهنه من البداية؟! وهل يتفق هذا النوع من النشر مع المعايير المهنية.. هل تكتب هذه الصحيفة عن شىء يحدث فى مصر أم يقع فى إسرائيل؟! (4) هناك مثل إنجليزى شهير يقول:(التفاحة العفنة تفسد جارتها) «The rotten apple injures its neighbors»، وللأسف الشديد فى هذا البلاء الذى يضربنا ويفرق بين المصريين فى هيئة صراع محموم على السلطة والتغيير من جانب عدد من أصحاب المصالح والأجندات كلهم ولا أزكى أحدا على الله - أقول: هناك كثير من هذا التفاح الذى يحاول أن ينقل عفونته إلى قطيع يجره خلفه، هناك تفاح عفن يطل علينا من الصحافة وآخر يملأ شاشات الفضائيات وثالث يسعى للحصول على مغانم حتى ولو على جثة هذا الوطن، ولا يبقى بعد رحمة الله لإنقاذ السفينة إلا وعى الناس وتمييزهم للخبيث من الطيب.. «اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا».