لن تهدأ نوبات الفجور السياسى ولن تنزوى نزعات الغطرسة ، بل لن تزول جذور السادية القابعة فى أصلاب الدولة العبرية ، تلك التى شكلت خارطة جديدة للتاريخ الدموى لدى كل الكيانات المارقة والمنفلتة من أى عرف أو قيمة أو مبدأ أو نظرية أو معيار والمستندة دائما إلى منطق القبح الإنسانى فى أبدع تجلياته !! ولقد لاحت مجددا فكرة الشروع فى اقتحام الأقصى لدى جماعات من المتطرفين الذين عاثوا فسادا فى جنباته وفى مسيرات استفزازية متوالية متخذة من باحات المسجد مرتعا لاحتساء الخمر وتفجير النكات والتندر بالمساخر ذلك ما بين سطح المصلى المروانى والجامع القبلى، ومتخذة أيضا مما يسمى بعيد نزول التوراة التلمودى ذريعة كبرى نحو ممارسات فجة من التدافع والارتطام والعنف ذلك الذى استمرأته الشخصية اليهودية طيلة تاريخها حتى صار ترياقا دائما تلجأ إليه بين آن وآن كلما عنت لها تلك العلة المتأصلة !! ولا يعد كل ذلك أو بعضه ممثلا إلا لجولة من جولات الصراع على إبادة الأقصى وجعله ذكرى مقيتة تراود أطياف العقل الإسلامى الذى لم يستقو بتاريخه الفائت وقدراته الفائقة فى رسم استراتيجية تعصمه من زلات المآزق الحضارية ، استراتيجية يستعيد بها تألقه فى ردع الخصومات الدينية والتاريخية وتكون قوامة عتيدة للشخصية الإسلامية المعاصرة . وإذا كان الأفق السياسى الأمريكى قد أنتج الآن نظرية باهتة قد عرفت باسم المثالية النفعية والتى أفرزتها قريحة «هنرى كسينجر» وقامت فى بنائها على تساؤل حيوى جوهره : هل على الولاياتالمتحدةالأمريكية حتمية التدخل العسكرى حماية للديمقراطية وحقوق الإنسان أم أن هناك ضرورة ما نحو قصر ذلك التدخل لحماية مصالحها الخاصة؟ والمعنى الكامن أن القيم الأمريكية إنما تفرض تقدير المعاناة الإنسانية بعمق لكن المبدأ العام يحتم عدم التدخل العسكرى إلا إذا كانت المصالح القومية الأمريكية على المحك . وإذا ما أخذت هذه النظرية المعاصرة مأخذ الجد والبحث فإنها تسقط سقوطا مدويا ، إذ متى كان التدخل العسكرى الأمريكى فى شئون دول العالم -والمتجاوز تاريخيا لقرن وعقدين والمتجاوز فى المعنى لأحقاب وأحقاب- هو حماية للديمقراطية وحقوق الإنسان، وهل حماية الديمقراطية تقتضى حتمية الإبادة؟ وهل إقرار حقوق الإنسان يستلزم تدخلا عسكريا من الخارج ؟ وحتى لو صح ذلك فإنه يحمل فى ذاته إدانة تاريخية بالنسبة للشعب الفلسطينى الذى لم يستظل لحظة بسحابة واحدة من تلك الديمقراطية البلهاء أو يعايش حقا واحدا يمنحه مشروعية الحياة ، وعلى الصعيد الآخر تجوب النظرية أفقا آخر حول قصر التدخل العسكرى على حماية المصالح القومية ، فإذا كانت إسرائيل هى الشوكة الحادة المدعومة أمريكيا بل هى الدولة المتفردة فى تعريض المصالح الأمريكية للخطر الداهم، فأين موقع التدخل العسكرى فى القضية إلا أنها الاستثناء العاصف بالنظرية المعاصرة بل بأى من المعايير والمحددات السياسية على إطلاقها والشواهد التاريخية تمثل تدليلا صارما على ذلك . ولعل الحالة الفلسطينية تجسد الإدانة الأبدية للسياسة الأمريكية الحديثة والمعاصرة وتحجبها عن تصدير نظريات ورؤى سياسية مغلوطة ومغرضة. من ثم فهى لا تحظى بأدنى درجات الاحترام والوقار العلمى بل إنها تؤكد دوما على ذلك التراجع عن الدور الحيوى المتوجب على دولة تزعم السيادة المطلقة واحتضان القضايا الإنسانية وعصمة الشعوب من الهوان، لكن النقطة الفاصلة التى لابد أن تستوقفنا هى: : كيف لإسرائيل أن تجدد هجماتها على المسجد الأقصى فى ظل فورة المد الثورى العربى ؟ ألا يعتبر هذا المد تحولا تاريخيا له دلالات عديدة ؟ ألم تقتحمه الشكوك باستيقاظ المارد العربى القديم ؟ وكيف لها أن تستنكر الزحف نحو القدس فى إطار ممارساتها الهوجاء؟ ألا يجتاح الرعب إسرائيل بعد زوال الأنظمة الموالية وتولى الشعوب قيادة ذاتها وهو ما يعنى أنه لا تفريط وإفراط ؟ أليس الربيع العربى يقابله فى هذه اللحظة التاريخية خريف اسرائيلي ؟ وكيف يمكن لإسرائيل إقامة معادلة موضوعية بين ترسانتها النووية وبين القناعات الأصيلة للشعوب العربية الثائرة ؟ أليس مطروحا لدى الساحة الإسرائيلية أن الحروب الدينية بسبب الأقصى أو غيره يمكن أن تكون أشد فتكا وأكثر ضراوة من تلك الحروب القائمة على ابتزاز الحقوق ؟ ألا يتراجع العقل الإسرائيلى عن إيمانه الشامخ بفلسفة القوة؟ ألا يعتد بأن فكرة إفناء الآخر تحمل فى ثناياها إفناء للذات؟ وكيف لمنظومة هذا العقل إحداث تغير ذاتى إيجابى يحركها نحو أن تكون ذات طابع قومى آخر؟ ألا تلفظ الأيديولويجية الصهيونية أنفاسها وسط الزخم المعرفى المتلاحق لحظيا؟ إن سؤال الأسئلة التى تبثه دائما الأكاديميات السياسية ومراكز البحوث الاستراتيجية هو ماذا تريد إسرائيل؟! إن الصيحات اليهودية المنصفة من مايكل والتزر ، ويورى افنيرى وتشوميسكى وجدعون ليفى وعقيب الدار توماس هيلين ومؤخرا راى أبيلا وغيرهم كثير لن تذهب أدراج الريح بل إنها ستظل تؤرق الضمير العالمى أمد غير طويل لأن الأفكار العاقلة تظل ذات قدرة هائلة على الاحتواء والسيطرة والفاعلية التى تتضاءل أمامها تلك القوى المخترقة المتهاوية والصائرة بالضرورة نحو منعطفات العدم كما تقرر حركة التاريخ.