فى الاقتصاد.. قد لا يصح الاعتماد على التشاؤم أو التفاؤل فى مجال التوقعات المستقبلية وخاصة عندما تضع «موازنة» لمواردك ونفقاتك على مدى عامل كامل.. فقد تُخيّب الأحداث ظنك بل قد تأتى الرياح بما لا تشتهى سفنك.. ومع ذلك فكل شىء جائز.. ولا يعلم الغيب سوى الله سبحانه وتعالى.. ولعل ثورة الشباب السلمية فى 25 يناير الماضى وتداعياتها المختلفة خير دليل على ذلك. أقول ذلك.. لأن القراءة السريعة لملامح مشروع موازنة العام المالى الجديد والذى يبدأ مع يوليو المقبل.. تكشف أن وزير المالية يعتمد على التفاؤل بتحسن أوضاع الاقتصاد المصرى حتى يخرج من عنق الزجاجة الحالى وهى أحد التداعيات السلبية لثورة يناير، فالسياحة الخارجية بعافية شويه، والاستثمارات الخارجية متمنعة عن القدوم إلى مصر، وكذلك تحويلات المصريين فى الخارج وعوائد الصادرات، فالوزير يرى أن اقتصادنا متنوع وبنيته الأساسية بخير وهو قادر مع بعض المساعدات الخارجية على النهوض من كبوته أو وعكته المؤقتة والذى من أبرزها تكرار الإضرابات العمالية والوقفات الاحتجاجية وتعطيل عجلة الإنتاج بحجة مطالبات فئوية يمكن تأجيلها إلى حين تحسين الأوضاع خاصة أنها تحدث فى ظل عدم استقرار سياسى وأمنى- وهو أمر طبيعى ومتوقع ويحدث فى أعقاب كافة الثورات- كان تأثيره سريعا على الاقتصاد وتمثل فى تدنى معدلات النمو فى الناتج المحلى والتى انخفضت حاليا إلى حوالى 2% بعد أن وصلت إلى 6% فى نهاية يناير الماضى. ومن ثم كان على مشروع الموازنة الجديدة أن يعبر عن هدفين أو مطلبين ملحين، الاستجابة لهؤلاء المحتجين والذين تكرر إضرابهم عن العمل لتحسين مرتباتهم، وخاصة أن أغلبهم من الفقراء ومحدودى الدخل الذين لم تطلهم ثمار الإصلاحات التى شهدها الاقتصاد القومى على مدى السنوات القليلة الماضية، مع أنهم هم الذين تحملوا عبئها! أما الهدف الثانى فهو العمل على تنشيط معدلات النمو الاقتصادى مع الحفاظ على معدل عجز الموازنة العامة فى الحدود الآمنة. بالنسبة للهدف الأول يلاحظ أن مشروع الموازنة تضمن عددا من الإجراءات العاجلة والضرورية لتحقيق ما يسمى بالعدالة الاجتماعية بين جميع المواطنين.. لعل فى مقدمتها إدراج 7.5 مليار جنيه قيمة تكاليف رفع الحد الأدنى للمرتبات إلى 700 جنيه، وأيضا تخصيص 10 مليارات جنيه لإقامة مساكن للشباب، ورفع حد الإعفاء الضريبى من 9 آلاف إلى 12 ألف جنيه على الدخول، وتخصيص مبلغ حوالى 2 مليار جنيه لمواجهة تكاليف العلاج والأدوية المجانية للمواطنين الذين يعالجون على نفقة الدولة، أضف إلى ذلك مبلغ 13.5 مليار جنيه كدعم لهيئة البترول لعدم زيادة أسعار المنتجات البترولية فى السوق المحلى وخاصة السولار والبنزين والبوتاجاز والغاز بعدما ارتفعت أسعار البترول إلى ما يزيد على 100 دولار للبرميل الواحد. وفى رأيى أن كل ما تقدم كان ضروريا ومطلوبا لتخفيف أعباء متطلبات الحياة للمواطنين محدودى الدخل وعلى رأسهم موظفو الدولة والعاملون بالحكومة، فالمرتبات القديمة لم تكن تثمن من جوع ولا تروى من عطش.. وكلنا نعلم كيف كان الموظف يتدبر أحواله!! فالكل كان يده فى جيب الآخرين.. ولن أزيد! وهو أمر يمس الكرامة وحرمة المال العام وهيبة الدولة.. خاصة أنه فى ظل تدنى الحد الأدنى للأجور.. كان هناك من يتقاضى الألوف بل الملايين.. وهو ما كان دافعا للمرارة والحقد والشعور بعدم الانتماء لهذا البلد الطيب. على أية حال.. كان لابد من الإصلاح ولو على مراحل وهو ما يقوم به وزير المالية.. خاصة أنه أضاف على ما كان قد تحقق من قبل المعاشات والضمان الاجتماعى.. حيث زاد المبالغ المخصصة لذلك حوالى 1633 مليون جنيه تحتل نسبة زيادة قدرها 10% إلى جانب تخصيص 500 مليون أخرى لدعم إسكان محدودى الدخل، وزيادة الدعم المخصص للسلع التموينية بحوالى 5 مليارات عما كان موجودا فى الموازنة السابقة ليصل حاليا إلى 22.5 مليار جنيه، بينما قرر الوزير خفض الدعم الذى كان مخصصا لتنشيط الصادرات من أكثر من 4 مليارات إلى 1.5 مليار جنيه فقط.. حيث ثبت أن المستفيدين منه لم يتجاوزوا عدد أصابع اليد الواحدة من الشركات المملوكة للوزراء وكبار القوم من شلة الحزب الوطنى! أضف إلى ذلك زيادة المبالغ المخصصة للتعليم والتدريب.. والكوادر الخاصة لبعض الفئات مثل أعضاء هيئة التدريس بالجامعات والأطباء والممرضات والمدرسين وغيرهم. *** ولكن من أين سيأتى الوزير بالتمويل المطلوب لتلك الإجراءات العاجلة لتحسين أحوال المواطنين؟ أشرت من قبل إلى أن الوزير متفائل بسرعة عودة الأوضاع الاقتصادية لسابق عهدها قبل ثورة يناير، خاصة الاستثمارات الأجنبية والسياحة الخارجية وتحويلات المصريين بالخارج، وإلى أن يتحقق ذلك فلا بأس من فرض ضريبة تصاعدية على الأرباح التى تحققها الشركات بنسبة 5% والمعنى أن الضريبة القديمة كانت موحدة على الجميع بنسبة 20% على ما يتحقق من أرباح، ولأن أى شركة تحقق أرباحا تزيد على 10 ملايين جنيه فى العام سوف تدفع ضريبة إضافية على ما يزيد على هذا المبلغ بنسبة 5% فقط، وهو ما يمكن أن يوفر 3.2 مليار جنيه. أما البند الثانى لزيادة الموارد فقد كانت السجائر.. حيث رأى الوزير أنها تدمر صحة المواطنين وتؤدى إلى الكثير من حالات الوفاة، فما المانع من زيادة الضرائب عليها للحد من استهلاكها، فقرر زيادة الضرائب عليها من 40% إلى 50% وهو ما يتيح له جمع مبلغ إضافى سنوى بحوالى 1.2 مليار جنيه! ضريبة أخرى كان الوزير قد قرر فرضها ولكنها لم تحسم بعد، وهى على الأرباح الرأسمالية من الأسهم والسندات والدمج والاستحواذ وإعادة التقييم.. فقد قيل إنها قد تؤثر على البورصة.. وتطفش المستثمرين فيها! وأيضا توقع الوزير مليار جنيه من حصيلة الضرائب العقارية و633 مليونا من ضرائب الدمغة على المرتبات. والطريف فى الموضوع أن كل هذه الزيادة التى حاول وزير المالية الحصول عليها بالتفتيش فى دفاتره لم تتجاوز حصيلتها 5 مليارات و336 مليون جنيه، بينما زاد العجز فى الموازنة بحوالى 35 مليارا و500 مليون جنيه. ويعتقد الوزير أن ما حصل عليه من قروض من صندوق النقد الدولى (حوالى 3 مليارات دولار) ومثلها من البنك الدولى.. قد تسد هذا العجز الإضافى لهذا العام، وهو يحقق له الهدف الثانى من مشروع الموازنة وهو إبقاء العجز الدائم بها فى الحدود الآمنة! يبقى الجزء الآخر وهو تنشيط الاقتصاد وزيادة معدلات النمو.. وهنا يعتمد الوزير- بجانب التفاؤل- على المنح والمعونات الخارجية ومساعدة الدول الأشقاء وهو ما حدث من السعودية وقطر حتى الآن، إلى جانب زيادة مخصصات الاستثمارات الحكومية من 40 مليار جنيه فى موازنة العام الماضى إلى حوالى 60 مليارا فى العام الجديد.. على أن تخصص تلك الزيادة للاستثمار فى قطاع التشييد والبنية الأساسية.. أى مشروعات الطرق والمياه والصرف الصحى والكهرباء.. وغيرها.. باعتبار أنها الأسرع والأكثر فى توفير فرص عمل جديدة مما يحد من التأثير السلبى للزيادة التى طرأت على الحد الأدنى للأجور.. وبالتالى يظل معدل التضخم عند الحدود الآمنة أيضا. *** وفى رأيى أن الوزير حاول واجتهد.. وهو رجل جاد ومنضبط.. ويبقى أن يكون السوق عند حسن ظنه وأن تأتى الرياح بما تشتهى سفنه!