لا ثورة دون شعر.. وعند المصريين لا ثورة دون شعر ونكات، وتردد أنه عندما تكررت المظاهرات وزادت الجموع وأيام الغضب فى ميدان التحرير اقترح احد المسئولين على الرئيس نقل ميدان التحرير إلى الكيلو 27 طريق الواحات!!.. «هذه أخف نكتة تم تداولها أيام الغضب والثورة». وثورة 23 يوليو 1952 أفرزت شعرها ونكاتها التى وصلنا منها ما قيل حول «الحركة» فقد كان يطلق على خروج الجيش فجر 23 يوليو حركة قبل ان يطلق عليها طه حسين وصف الثورة. وفى كل ثورات المصريين التى هبت فى العصر الحديث تدعو إلى التغيير كان يتم تناقل الشعر والنكات شفاهة ثم عبر وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحافة «راجع دور عبدالله النديم فى ثورة عرابى» ثم الراديو الذى نقل بيان ثورة 23 يوليو ولم يكن هذا الجهاز متاحاً فى كثير من بيوت المصريين وقتذاك، لذلك كان التحرك بطيئا والوصول إلى التغيير المنشود قبل أو بعد الثورة أيضاً بطيئاً إلى حد ما، كان هذا قبل أن تعرف بيوت المصريين عفريت التواصل الالكترونى المدعو الانترنت. - 1- التغيير هذا هو الحلم الثورى الذى جمع المصريين على الثورة، والتغيير قرار جماعى والجماعة تحتاج إلى وسائل للاتصال والتأثير، وخلال السنوات القليلة والشهور الأخيرة كانت هناك وسيلة سحرية هى التى ألهبت صدور قطاع عريض من المصريين يمكن تجاوزا أن نحدد أعمارهم ما بين الخامسة عشرة والأربعين، وبجانب وسائل الإعلام والاتصال الكلاسيكية فقد نجحت هذه الوسيلة فى حشد هذا القطاع العريض وتجييشهم بل ونجحت فى أن تدفعهم للخروج إلى الشوارع فى بروفات سابقة على الخروج الكبير فى 25 يناير، ويمكننا الآن أن نتفق أن هذه الوسيلة لها تأثير اجتماعى وثقافى قوى وكبير على المجتمع المصرى، تعتمد فى هذا على قدرتها فىالوصول إلى جمهور كبير من المستقبلين من خلال رسالة قوية ومؤثرة حتى قيل إن الوسيلة ذاتها هى الرسالة وهو ما يعنى أن نشر الرسالة يمكن أن يكون أكثر أهمية من محتوى الرسالة نفسها. أعتقد أنه صار مفهوماً أننى أتحدث عن الانترنت أهم وأخطر وسائل الإعلام البديل الذى يمارس دوره فى خلق رأى عام اليكترونى من خلال صفحات التواصل الاجتماعى وغرف المجتمعات الافتراضية مثل البالتوك والشات، أو المنتديات الحوارية والمدونات، أو تجمعات الفيس بوك. عالم سحرى يمكنك من خلاله أن تتواصل بالصوت والصورة مع أشخاص على الطرف الآخر من العالم بنفس السهولة التى تتواصل بها مع جيرانك فى العمارة أو الشارع، وتتبادل معهم الحديث والنكات والصور الثابتة والمتحركة وأهم من كل هذا الأفكار والمشاعر التى تصنع التغيير. -2- علماء الاجتماع والنفس الغربيون انتبهوا لهذه الوسيلة التى تحولت إلى ظاهرة اجتماعية واختبروا مدى تأثيرها وخطورتها على البشر حول العالم وحذروا من أنها تضعف أو تحد من قدرة الفرد على التصرف بصورة مستقلة بمعنى أن إعادة إنتاج الصور الذاتية للمجتمعات يخلق ما يمكن أن نطلق عليه سياسة القطيع من خلال تقديم الواقع بإفراط على سبيل المثال وتطبيقاً على ثورة يناير، فالذى دفع شباب المصريين للخروج إلى الشوارع وأكثرهم فى عمر الزهور لم تطأهم الأقدام الثقيلة للظلم أو الفساد التى وطئت آباءهم أو إخوانهم الكبار، أقول الذى دفعهم إلى هذا هو الحديث الضاغط والمفرط والمتكرر عن الفساد والظلم وتجاوزات الشرطة هذا الأمر الذى خلق فى النهاية رأيا عاما إليكترونيا بين هؤلاء الشبان دفعهم إلى الثورة والخروج إلى الشارع لنفاجأ أن صبياناً لم تتجاوز أعمارهم الخامسة أو السادسة عشرة منخرطون فى الثورة بين أقرانهم الذين يقاربونهم فى العمر ولا يزيدون عليهم كثيراً. -3- وعلماء الغرب أيضا مثل لويس دورث، وبارسونز أكدوا على أن وسائل الإعلام الإليكترونية تلك سوف يتم الاعتماد عليها كثيراً فى السيطرة الاجتماعية خلال القرن الواحد والعشرين الذين نعيشه، وعن نفس المصدر السابق صدرت أيضاً بعض التساؤلات والتحذيرات من «الثقافة الامبريالية» التى تفرض نفسها كأمر واقع على الشعوب التى تريد تغييرها من خلال السلطة السياسية والاقتصادية وباستخدام وسائل الإعلام البديلة التى يتحكم فى مصادرها الغرب الأمريكى خاصة، ويرصد المحللون تأثير وسائل الإعلام الغربية تلك على التغيير الاجتماعى السريع الذى حدث فى بعض المجتمعات الآسيوية خلال السنوات الأخيرة.. فماذا عنا نحن فى الشرق بعامة ومصر بخاصة؟!. - 4 - دعونى أحكِ لكم حكاية من زمن قريب مضى أرى أنها غائبة الآن عن الأذهان، والحكاية عن وطن تم اغتصابه اسمه فلسطين واجتمعت أمة العرب - التى كانت تعرف فى هذا التاريخ أعداءها كما تعرف أصدقاءها - على حرب هذا المغتصب ومقاومته وكانت تستعين أيضاً بالنكات والشعر فى هذه الحرب. وهناك قصيدة رائعة كتبها الشاعر العربى السورى نزار قبانى وشدت بها نشيداً حماسياً قيثارة الغناء العربى المصرية أم كلثوم، أعتقد أن كثيرين من أبناء و مفجرى ثورة 25 يناير لا يعرفون هذه القصيدة أو الأغنية التى تحمل عنوانا «أصبح الآن عندى بندقية»، لا يعرفونها بعد أن انطمست ملامح الزمن وغامت الرؤية قبل ان تغيب الكلمات والمعانى عن الساحة ولا يبقى منها إلا أطياف فى ذاكرة أجيال تنسحب من مواقعها بفعل الزمن ودورته الطبيعية. ومن وحى اللحظة الثورية الراهنة اسمحوا لى أن نتشارك فى بعض مقاطع قصيدة نزار التى يقول فيها: أصبح الآن عندى بندقية أصبحت فى قائمة الثوار افترش الأشواك والغبار وألبس المنية مشيئة الأقدار لا تردنى انا الذى أغير الأقدار يا أيها الثوار: فى القدس، فى الخليل، فى بيسان، فى الأغوار، فى بيت لحم، حيث كنتم أيها الأحرار.. تقدموا.. تقدموا.. فقصة السلام مسرحية والعدل مسرحية إلى فلسطين طريق واحد يمر من فوهة بندقية ويقول نزار فى مقطع آخر: «عشرون عاما وأنا أبحث عن أرض وعن هوية» فنفهم أن ظهور القصيدة واكب عشرين عاما على ضياع فلسطين وتهجير أهلها بعد اغتصاب أرضهم ودورهم وزرعهم وعرضهم، وها قد مرت عشرون عاما ثانية وثالثة ومازال أخ العرب يبحث عن أرضه وهويته اللتين افتقدهما ويتم الآن ترسيخ هذا الفقد من خلال التغيير المنشود، وتحويل المواطن العربى إلى مواطن عولمى لا مانع أن يكون مزدوج الجنسية والانتماء ويلقى بالبندقية رمز المقاومة ويستبدلها بصفحة شخصية يفتح من خلالها حساب account على الفيس بوك، وفى غياب الإعلام الوطنى الضعيف المتردد تترك مساحات شاسعة فى عقل ومشاعر الاجيال الجديدة يعبئها أصحاب الوسيلة والمتحكمون فيها. باختصار تضيع هذه الأمة عندما تفقد التمييز والبوصلة فلا تعرف العدو من الصديق والذى يريد أن يسمنها لذاتها من الذى يسمنها ليحلب خيرها ويأكل لحمها حية ومذبوحة.