ظل الإيطاليون شهورا وأسابيع وأياما، وهم يتفرجون على سلسلة من فصول الانقسامات الحزبية، والصراعات بين القيادات والأحزاب والتكتلات، بدأت فى جبهة التحالف الحاكم ذاته، بزعامة رئيس الوزراء سيلفيو بيرلوسكونى.. إلى أن جاء يوم الخلاص – أو هكذا ظنت غالبية الإيطاليين – فى شكل سحب الثقة البرلمانية من الفارس المليونير.. لعل تلك الخطوة تنقذ إيطاليا من التوهان أو التشتت السياسي، الذى يضر الجميع، ولا يفيد أحدا .. سوى القابضين على زمام السلطة، حتى ولو كان ذلك بفضل ثلاثة أصوات «فقط كفارق ترجيحى. وحتى تلك الأصوات يقدم دى بييترو أحد زعماء المعارضة، أدلة على أنها مشترة، وتقول التكهنات إن سعر الصوت منها يصل إلى نحو نصف مليون يورو، أى أكثر من أربعة ملايين جنيه مصرى، وليس مئات قليلة كسعر الصوت الانتخابى عندنا! فمفاجأة حصول بيرلسكونى على الثقة فى آخر لحظات التصويت البرلمانى يوم الثلاثاء الماضي، بفارق الأصوات الترجيحية الثلاثة، 314 لصالحه مقابل 311 ضده - أنفذت بيرلسكونى وحكومته من السقوط، وأطالت فى عمره السياسى فترة جديدة، ستطول أو تقصر.. لكنها أوقعت إيطاليا بأسرها فى أزمة، لن تمكنها من استعادة استقرارها الحزبى من الداخل.. أو تعيد لها القدرة على صنع القرار واتخاذه. وكما يقول المعارضون، فإن سلاح الثقة سيظل مسلطا على رقاب الحكومة، وعلى رقبة بيرلسكونى نفسه من الآن فصاعدا.. فكل قانون تريد الحكومة تمريره عبر البرلمان سيكون بمثابة طرح جديد للثقة. وكل برنامج أو مشروع يعرض على البرلمان، سيكون الحلفاء القدامى المنشقون على بيرلسكونى – رئيس البرلمان جانفرانكو فينى وأتباعه من أعضاء الأغلبية القدامى – سيكونون له بالمرصاد. وإذا كان هناك من باع منهم صوته لبيرلسكونى فى آخر تصويت، فقد لا يكرر فعلته فى تصويت قادم. ولا أغلبية مضمونة مستقبلا. معنى ذلك أن أزمة بيرلسكونى تحولت بعد حصوله على الثقة الضئيلة – إلى أزمة وضع سياسى بكل أركانه.. أزمة إيطاليا ذاتها.. وأزمة ديمقراطية!.. والضحية الإيطاليون جميعا، سواء من يزال مؤيدا منهم لبيرلسكونى وتحالفه، أو من يعارض.. وينتظر يوم الخلاص من ذلك الوضع بين يوم وآخر أو بمعنى أدق، بين تصويت برلمانى قادم، وتصويت آخر. وتستمر اللعبة/U/ وبالمقابل فإن الحكومة والبرلمان لا ينشغلان بالنظر فى الإصلاحات الضرورية أو المطلوبة لتحديث إيطاليا وإنقاذ اقتصادها من الانهيار. ففى سبتمبر وأكتوبر الماضيين، كان رئيس البرلمان جانفرانكوفينى، الذى اسهم فى تأسيس حزب بيرلسكونى الجديد «شعب الحربة» منشغلا فى أحاديث مضادة لبيرلسكونى، بعد انسلاخه من الحزب. وفى نوفمبر طالبه باعتزال منصبه كرئيس للوزراء ثم سحب بعد أسبوع من تلك الدعوة، أربعة وزراء من الحكومة، ينتمون إليه مع مجموعة من أعضاء الأغلبية ليشكل بهم تكتلا سياسيا جديدا، أعاد به تكوين حزبه اليمينى السابق، لكن ليس بالاسم الملغى «الحزب الوطنى»، بل باسم «المستقبل والحرية»،وبعد ذلك، انبرت وزيرة الفرص المتساوية مارا كارتانيا لتعلن نيتها الاستقالة من الحكومة، بسبب استمرار النزاعات الحزبية المهددة لبقائها، ومع ذلك لم يستطع أحد أن يتكهن أو يقدر على الجزم بأن بيرلسكونى إزاء ذلك التصدع وتلك الانشقاقات قد انتهى! وربما ليس من قبيل الصدفة، أن تبدأ المحكمة الدستورية الإيطالية فى يوم التصويت على الثقة نظرها فى عدم دستورية قانون أصدره بيرلسكونى وجماعته لحمايته وحماية وزرائه من المثول أمام المحاكم بتهم تتعلق بالجريمة وستطول دراسة تلك المحكمة، قبل اتخاذها أى قرار بإبطال القانون ومع ذلك لا يمكن التكهن بأن إبطال ذلك القانون دستوريا، سينهى بيرلسكونى.. أو يضعه على الفور فى متناول القضاة، الذين يحققون فى جرائم رشاوى وفساد تمت إليه بصلة من قريب أو بعيد. وقد سبق وأن أصدر قانونا مماثلا لتحصينه هو ورئيس الجمهورية ورئيسى البرلمان ومجلس الشيوخ، وقامت المحكمة الدستورية بإبطاله دستوريا لكن سرعان ما عادت ريمه إلى عادتها القديمة، وتمكن من إصدار قانون آخر بديل لحمايته، قصره عليه وعلى مصالحه ووزرائه لتنشغل المحكمة الدستورية الإيطالية بدراسته من جديد هو الآخر وتستمر اللعبة، ويضيع الوقت على حساب المصلحة العامة ومقدرات الإيطاليين واقتصادهم ومستقبلهم برمته! والى جانب كل ذلك، كان طبيعيا أن تنخفض شعبية بيرلسكونى نفسه من 60% عقب نجاحه فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة عام 2008، إلى 41% فى يونيو الماضى، ثم 32% فى شهر أغسطس، طبقا لاستقراءات الرأى العام المستقلة فى إيطاليا. وكان حلفاؤه وحدهم هم الذين نجحوا فى إسقاطه، أو وضعوا أمامه العراقيل من أجل إسقاطه. ففى عام 1994، كان حليفه أمبرتو بوسي، زعيم رابطة الشمال «ليجا نورد» العنصرية، هو الذى أحدث أول سقوط لبيرلسكونى، بانشقاقه عليه فى الشهر السابع من إعلان حكومته الأولى. وفى العام الحالى كان حليفه الآخر جانفرانكوفينى الذى نجح معه فى الانتخابات ويشكل معه التحالف الحاكم، هو الذى انشق عليه هذه المرة، وعمل على إسقاطه منذ خروجه من التحالف، وسيظل يعمل حتى إسقاطه. والمشكلة لا تتعلق بخلافات حول قوانين الإصلاح، أو منهجية الرؤية لإنقاذ إيطاليا مثلا، بل بصراعات داخلية مصلحية وشخصية وزعامية. فالانتخابات المحلية الأخيرة رفعت شأن رابطة الشمال العنصرية، ونفخت فى صورة زعيمها بوسى.. ومقابل ذلك، رأى الزعيم الآخر فى التحالف فينى أن تنامى مكانة ليجانورد وزعيمها الآخر فى التحالف فينى يجيىء على حساب نفوذه ودوره فى التحالف أى نفوذ ودور فينى، وهو رئيس البرلمان، وعضو بارز ومؤسس ومندمج فى حزب بيرلسكونى (شعب الحرية). وتصاعدت الخلافات دفاعا عن الأدوار والنفوذ داخل التحالف الحاكم، وشمل ذلك وضع شروط جديدة للتعاون، واسترداد النفوذ، مما أدى إلى طرد فينى من التحالف، وانشقاقه بالتالى على بيرلسكونى نفسه، والوصول بالنزاع إلى حد العمل بالمثل القائل «إما أنا أو الطوفان» وعمليا أدى انشقاق رئيس البرلمان فينى عن التحالف الحاكم، إلى خسارة بيرلسكونى أصوات ما بين 35 إلى 40 صوتا من أصوات الأغلبية البرلمانية، سحبها فينى إلى صفه ليؤسس بهم حزبه الجديد. بحث عن زعيم/U/ والوضع السياسى فى إيطاليا برمته تسوده الآن الانقسامات والصراعات. فأحزاب يسار الوسط المعارضة تنقسم على بعضها البعض، وتنشغل فى البحث عن زعيم لها تخوض به أى انتخابات قادمة، دون جدوى.. ولم يستطع أحد من زعماء تلك الأحزاب أن يقنع الآخرين باستحقاقه لخلافة الزعيم المنسحب رومانو برودى، منذ سقوط حكومة اليسار قبل عامين.وأحزاب يمين الوسط الحاكمة، تنقسم هى الأخرى على بعضها، وتتصارع فيما بينها.. ولا هم لها سوى البقاء فى السلطة، حتى لو دعى ذلك إلى التحالف مع الشيطان، ولذلك فإن ليجانورد «أو رابطة الشمال» تتململ بدورها من الانتماء إلى يمين الوسط بزعامة بيرلوسكوني، ويرى المراقبون أن زعيمها بوسى بدأ يرجح كفته هو شخصيا على كفة بيرلسكونى نفسه.. وفى الوقت الذى خرج فيه بيرلسكونى بجلده من مصيدة سحب الثقة البرلمانية، تطالب ليجانورد بحل اللجوء إلى الانتخابات المبكرة.. ظنا مها أنها هى التى ستكتسح الانتخابات المقبلة، وليس حزب بيرلسكونى «شعب الحرية» الذى يتعرض للانهيار بسبب انشقاق رئيس البرلمان فيني. ويجمع الكل على أن بيرلسكونى وفينى لم يحب أحدهما الآخر أبدا، ولهذا لا أمل فى عودة الشمل إليهما.. وكما يقول بيرلسكونى ذاته، فإن فينى يسعى للقضاء عليه سياسيا. أما بيرلسكونى فمحاط بمشكلات شتى، سياسية وأخلاقية وجنائية.. تكفى عند البعض لإبعاده وطى صفحات البيرلوسكونية التى يراها البعض أنها خرافة صنعتها ترسانته الإعلامية الضخمة.