بصرف النظر عن أعمال العنف والشغب والبلطجة التى شهدتها الجولة الأولى من انتخابات مجلس الشعب الأحد الماضى فى عدد كبير من الدوائر، والتى تسببت فى وقوع قتلى وإصابة العشرات من أنصار المرشحين، وبصرف النظر عن منع مندوبى كثير من المرشحين من دخول اللجان الانتخابية، وبصرف النظر أيضاً عن الاتهامات من جانب أحزاب المعارضة باستخدام الرشوة والتزوير وتسويد البطاقات الانتخابية، إلا نتائج تلك الجولة التى أسفرت عن فوز ساحق للحزب الوطنى.. سيتأكد فى جولة الإعادة (اليوم) مقابل هزيمة ساحقة أيضاً للأحزاب المشاركة فى المنافسة.. تعنى أن ثمة خللاً مزمناً فى التركيبة الحزبية المصرية. إن هذا الفوز الساحق للحزب الوطنى والذى حصد وسيحصد الغالبية الكاسحة من مقاعد برلمان (2010) فى الجولة الأولى ثم الثانية التى ستجرى اليوم (الأحد) مقابل عدد محدود جداً من المقاعد لأحزاب المعارضة، لهو أمر يثير قلقاً حقيقياً ومشروعاً بشأن تقدم مسيرة التحول الديمقراطى التى بدأت أولى خطواتها الحثيثة منذ أكثر من ثلاثين سنة. ثم إن هذا الفوز الساحق للحزب الوطنى، بصرف النظر أيضاً عن مدى صحة تشكيك الأحزاب الأخرى المشاركة فى العملية الانتخابية فى نزاهة الانتخابات وصدقية النتائج.. هذا الفوز الساحق الذى يكاد أن يجعل البرلمان الجديد مجلساً للحزب الوطنى فى غيبة تمثيل معقول وضرورى لأحزاب المعارضة، سوف تتبدّى تداعياته السلبية فى إضعاف الأداء البرلمانى سواء فى التشريع أو فى الرقابة على الحكومة.. حكومة الحزب الوطنى. ولذا فإنى أحسب أن نتائج الانتخابات الأخيرة والنهائية فى ختام الجولة الثانية للإعادة اليوم، والتى ستؤكد غياب معارضة برلمانية قوية.. أحسب أنها لن تكون فى مصلحة الحزب الوطنى ذاته، باعتبار أن ضآلة تمثيل الأحزاب الأخرى فى المجلس الجديد ليس مكسباً حقيقياً للحزب يحسب له بقدر ما يحسب عليه، ومن ثم فإنه أمر يتعين ألا يثير الابتهاج والارتياح بل من الضرورى أن يثير قلق حزب الأغلبية على مستقبل الديمقراطية وتجربة التعددية الحزبية التى يقوم على أساسها النظام السياسى فى مصر وفقاً لنص الدستور. بصراحة أكثر وبوضوح أكبر ومن منطلق الحرص على النظام السياسى، فإن قوة الحزب الوطنى كحزب أغلبية حاكم، لا تتبدّى ولا تتأكد إلا بوجود معارضة قوية داخل البرلمان، وعلى النحو الذى يثرى الحياة السياسية ويرسخ التعددية الحزبية، وفى نفس الوقت يضفى على البرلمان الكثير من القوة فى ممارسة مهامه الدستورية كسلطة تشريعية وسلطة رقابة على الحكومة. أما انفراد الحزب الوطنى بمقاعد البرلمان إلا قليلاً جداً، فليس دليلاً أكيداً على هذه القوة المفرطة حسبما أسفرت نتائج الجولة الأولى وحسبما ستسفر نتائج جولة الإعادة اليوم، بقدر ما يعكس فى حقيقة الأمر ضعفاً وضموراً فى تركيبة وبنية بقية الأحزاب الأخرى.. الثمانية عشر التى خاضت الانتخابات هذه المرة ولأول مرة. لقد أكدت هذه الانتخابات أن أحزاب المعارضة فى مجملها باستثناء ثلاثة وأربعة أحزاب كبيرة نسبياً.. ليست سوى أحزاب ورقية مجهولة الاسم والعنوان والبرنامج، ليس لدى رجل الشارع فقط ولكن حتى لدى المثقفين والسياسيين والذين يتعذر عليهم ذكر أسماء أكثر من عشرة أحزاب على الأكثر. حتى الأحزاب الرئيسية منها، فقد تبدّى ضعفها متمثلاً فى ضآلة أعداد مرشحيها، وحيث لم يزد مرشحو حزب الوفد.. أقدم وأعرق الأحزاب المصرية على (168) مرشحاً بينما تراوح عدد مرشحى الحزبين الرئيسيين الآخرين ما بين (66) مرشحاً للتجمع، (31) للناصرى، فى الوقت الذى بلغ عدد مرشحى الحزب الوطنى (763) وبما يزيد على إجمالى مقاعد البرلمان (508) مقاعد بعد إضافة مقاعد «كوتة» المرأة، وحيث ستكون المنافسة فى غالبية الدوائر فى جولة الإعادة بين مرشحيه. هذه المقارنة بين أعداد المرشحين، وإن كانت تعكس بشكل أو بآخر قدرة الحزب الوطنى على ضخ كل هذه الأعداد التى تزيد على مقاعد البرلمان، إلا أنها تؤكد فى الوقت نفسه حرص أصحاب المصالح وكذلك السياسيين المنتمين إلى العائلات والعصبيات ذات الرصيد الشعبى الكبير والنفوذ المحلى والعزوة الاجتماعية والقبلية على الانضواء تحت لواء الحزب الحاكم، مثلما كان يحدث خلال تجربة التنظيم السياسى الأوحد.. الاتحاد القومى فى الخمسينيات والاتحاد الاشتراكى فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى وقبل العودة إلى النظام الحزبى منذ ثلاثة عقود. وفى هذا السياق يمكن تفسير فوز الحزب الوطنى بأغلبية تزيد على أكثر من (75%) من مقاعد البرلمان فى كل الانتخابات السابقة، أما استحواذه على هذه الأغلبية الساحقة فى انتخابات (2010) مع غياب شبه كامل للمعارضة.. مقارنة ببرلمان (2005) وحيث بلغ تمثيل المعارضة والجماعة المحظورة ما يزيد على (25%).. منها (20%) ممثلة فى (88) مقعداً للجماعة تحت مسمى المستقلين، فإنه لا تفسير واضحا سوى الهزيمة الساحقة للجماعة وحيث فشلت فى الفوز بأى مقعد فى الجولة الأولى وهو الفشل المرجح تكراره فى الجولة الثانية اليوم، مع ملاحظة أن حصولها على ذلك العدد من المقاعد فى المجلس السابق كان بسبب ما وصفه المراقبون السياسيون بالتصويت الاحتجاجى على الحكومة بأكثر مما كان تعبيرا حقيقياً عن قوتها الفعلية، وهو التفسير الذى يعنى أيضاً ويؤكد بكل وضوح مدى الوهن الذى تعانيه أحزاب المعارضة جميعها. الملاحظة الأهم فى المشهد الانتخابى هى الضعف الشديد فى الإقبال على ممارسة الحق الانتخابى، وحيث تراوحت نسبة التصويت فى مجملها ما بين (25%) وفقاً للأرقام الرسمية وبين (15%) وفقاً لتقارير منظمات المجتمع المدنى، وهى ملاحظة لها دلالتها بالغة الأهمية والمثيرة للقلق والتى تعنى غيبة ثقافة الانتخابات، مثلما تعنى أيضاً أن ثمة أزمة ثقة لدى غالبية الناخبين فى نزاهة العملية الانتخابية وفى صدقية نتائجها، ومن ثم عدم جدوى المشاركة الإيجابية والتصويت فى الانتخابات.. أى انتخابات! *** لقد كان الرهان كبيراً فى هذه الانتخابات على نجاح أكبر وتمثيل أوسع لأحزاب المعارضة.. سبيلاً حقيقياً لإثراء الحياة السياسية والحزبية، ودفع التعددية للأمام، وكذلك كان الرهان كبيراً على ارتفاع نسبة التصويت وزيادة الإقبال على صناديق الانتخاب. غير أن التجربة هذه المرة انتهت بسقوط كل الرهانات، وحيث جاءت نتائج هذه الانتخابات لتؤكد بكل وضوح تراجعاً مذهلاً ومقلقاً لتجربة التعددية، وبما يؤثر سلباً وبشدة على التجربة الديمقراطية المصرية فى مجملها. لقد بدا واضحاً أن تجربة التعددية الحزبية ما زالت تتطلب تطويراً حقيقياً وتنمية كبيرة، وهو أمر لن يتحقق إلا بإتاحة مساحة أوسع لحركة الأحزاب ومساعدتها فى إعادة بناء هياكلها التنظيمية. إن إرساء وإنجاح التعددية لن يتحقق إلا بتمثيل أكبر للمعارضة القوية حتى لو تمثلت فى حزبين رئيسيين آخرين إلى جانب الحزب الوطنى.. حزب الأغلبية. وإذا كان الحزب الوطنى قد نجح فى إحراز هذا الفوز الساحق الكاسح باستحواذه على مقاعد البرلمان، بينما لم تنجح كل الأحزاب المنافسة إلا فى الحصول على عدد بالغ الضآلة من المقاعد، فإن هذه النتيجة تثير القلق على تجربة التعددية.. لذا لزم التنويه.