حسنا فعلت الحكومة بتأكيدها على مسألة الالتزام بأحكام القضاء وعدم نيتها الالتفاف على الحكم الصادر بإلغاء الحرس الجامعى.. وهو الحكم الذى أصدرته مؤخراً المحكمة الإدارية العليا. وحسناً فعل الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء عندما تحدث عن احترام الحكومة الدائم لأحكام القضاء.. لكن ماذا لو أن الحكومة بادرت وسبقت حكم المحكمة بخطوة وأعلنت من تلقاء نفسها أنها ستلغى نظام الحرس الجامعى المعمول به منذ 29 عاما لمخالفته للقانون والدستور.. واستبداله بنظام آخر لا يخالف ولا يتعارض مع القانون والدستور؟!.. أول مكاسب الحكومة فى هذه الحالة هو أنها ستقطع خط الرجعة على الذين يحاولون كسب أبناط على حسابها مثل الأحزاب التى زعمت أن الحكم الصادر انتصار لنضالها الوطنى الطويل!.. أما المكسب الثانى فهو المصداقية التى ستتمتع بها الحكومة، والتى ستمكنها من إغلاق الباب فى وجه المزايدين وهواة الصيد فى الماء العكر.. مثل هؤلاء الذين بادروا بشن هجوم حاد على الحكومة واتهموها بأنها لن تنفذ حكم الحكمة.. أو الذين وصفوا الحكم بأنه صفعة على وجه الحكومة وراحوا يهاجمون رئيس الوزراء لمجرد أنه تحدث عن استحالة ترك الجامعات بدون تأمين وحراسة!.. لكنها دائماً مشكلة الحكومة التى تحاول أن تلحق بالقطار.. بعد تحركه!.. وليس من المنطق الزعم بأن مشكلة الحرس الجامعى كانت غير مطروحة على أجندة الحكومة وأنها لم تكن على أولويات اهتماماتها.. ذلك أن الحكم الذى أصدرته المحكمة الإدارية العليا سبقه حكم آخر قامت الحكومة بالطعن عليه و«استندت» فى طعنها إلى عدم وجود مصلحة للذين حركوا هذه القضية مع أنهم أساتذة جامعيون. لا أعرف من الذى أشار على الحكومة بهذه النصيحة؟!.. فمن غير المعقول أن أساتذة جامعة القاهرة الذين تبنوا هذه القضية لا مصلحة لهم فى شئون جامعتهم وكل ما يخصها.. حيثيات الحكم على أية حال أشارت إلى هذه المسألة وأكدت أن أستاذ الجامعة له مصلحة مباشرة فى شئون جامعته وكل ما يتعلق بها.. وليست قضيتى انتقاد الذين أشاروا على الحكومة بالسير فى هذا الطريق وإنما ما يهمنى أن الحكومة كانت على عِلم مسبق بوجود مشكلة اسمها الحرس الجامعى وأن القضاء - على أعلى مستوياته - على وشك أن يقول كلمته فى هذه المشكلة.. الحكومة كانت تعلم كذلك بأبعاد المشكلة.. والمشكلة أن الحرس الجامعى كنظام بدأ عام 1981 يخالف قانون الجامعات.. القانون يقول إنه لابد أن تكون فى كل جامعة وحدة للأمن تتبع رئيس الجامعة وليس وزير الداخلية وتكون مهمتها حماية مبانى الحكومة ومنشآتها وأمنها.. ومعنى تبعيتها لرئيس الجامعة أنها لا تتلقى تعليمات إلا منه أو من ينوب عنه طبعا.. أما الحرس الجامعى بشكله الحالى فمن الطبيعى - لأن أفراده ضباط وجنود فى وزارة الداخلية - أن يتلقى تعليماته من وزير الداخلية أو من ينوب عنه.. وليس لذلك معنى آخر إلا أن الحرس الجامعى ينتقص من استقلال الجامعات كما ينص الدستور.. فى نفس الوقت فإن الأجواء العامة والمناخ السياسى الذى تعيشه مصر أصبحا يسمحان بمثل هذا النوع من الحراك الذى لم تشهده مصر من قبل.. إضرابات واعتصامات وقضايا يرفعها الناس ضد الحكومة ويكسبونها.. وأصوات عالية ومخالب وأنياب لوسائل الإعلام.. وقضاء مستقل إلى أبعد الحدود.. كل ذلك لم يكن موجوداً من قبل.. ولم تتعامل معه حكومة قبل حكومة الدكتور نظيف.. وإذا كان يحسب لحكومة الدكتور نظيف قدرتها على التعامل مع هذه المتغيرات الجديدة فإنه يحسب عليها أنها أحياناً تتجاهل هذه المتغيرات وتتعامل معها وكأنها غير موجودة!.. فكيف توافق الحكومة فى مثل هذه الأجواء ومثل هذا المناخ أن يستمر انتهاك القانون والدستور لمدة 29 عاماً؟!.. ثم إننى على ثقة من أن الحكومة لا يهمها من يحرس منشآت الجامعات وأمنها.. لا يهمها أن يكونوا تابعين لوزارة الداخلية أو للجامعات نفسها.. كل الذى يهم الحكومة أمن المنشآت الجامعية وأمن الطلبة والأساتذة داخل الجامعة.. وإذا كان القانون والدستور يمنعان أجهزة الشرطة من التواجد داخل الحرم الجامعى - حفاظاً على استقلال الجامعات - فإن القانون والدستور لا يمنعان البديل المناسب.. أجهزة حراسة خاصة تتبع الجامعة.. أفراد من جهاز الشرطة يتم انتدابهم للجامعات.. المهم أن هناك بدائل.. وكان على الحكومة أن تبادر وتستخدم هى هذه البدائل لكى تصحح خطأ كبيرا ارتكب فى حق القانون والدستور.. وفى نفس الوقت لكى تكتسب مصداقية حقيقية تغلق بها أبواباً كثيرة تأتى منها الريح!.. لكن الحكومة لم تبدأ فى اللجوء لهذه البدائل إلا بعد أن أجبرها القضاء على ذلك!.. وهكذا بدأت الحكومة تبحث الآن عن البديل المناسب لحراسة وتأمين الجامعات بحيث لا يكون هذا البديل مخالفا للقانون وللدستور.. لكنها - كما قلت - الحكومة التى تحاول اللحاق بالقطار بعد تحركه.. وكم من القطارات تحركت قبل وصول الحكومة!.. *** لعلنا نذكر - على سبيل المثال - أزمة موظفى الضرائب العقارية.. مجموعة من الموظفين كانت لهم مطالب وكانت تصوراتهم أنها صحيحة ومشروعة.. حاول هؤلاء الموظفون لفت أنظار الحكومة إلى مطالبهم وكان ذلك بالطرق المشروعة والمتآلف عليها.. غير أن الحكومة لم تر ولم تسمع ولم تتكلم.. أظننا نذكر أن وزير المالية.. الدكتور يوسف بطرس غالى حاول التهوين من طبيعة المشكلة وحجمها.. وفجأة وقع مالم يكن فى حسبان الحكومة وتقديرها.. قام موظفو الضرائب العقارية الغاضبون بتنظيم اعتصام انضمت إليه أسر الموظفين.. وكان من الطبيعى أن يلفت الاعتصام نظر وسائل الإعلام المختلفة.. خاصة الفضائيات المعروفة بانتماءاتها.. فى البداية حاول وزير المالية وحاولت الحكومة التهوين من قيمة الاعتصام.. ثم تبين أن المشكلة أكبر من كل التقديرات.. وبدأت الحكومة تتحرك.. بدأت تجرى لتلحق بالقطار!.. وفجأة وجدت الحكومة الحل ووجد الدكتور يوسف بطرس غالى المخرج.. فجأة استجابت الحكومة لطلبات الموظفين المعتصمين.. النهاية كانت سعيدة - على طريقة الأفلام المصرية القديمة- لكن هل كانت كذلك بالنسبة للحكومة؟!.. كثيرون عبّروا عن روح الشماتة فى الحكومة وسمعنا من يقول انتصار الشعب على الحكومة.. مع أن الحكومة والشعب فى قارب واحد.. غير أن الأهم هو أن الناس تعلمت درسا بدأت فى تطبيقه.. فأصبحنا نرى ونسمع عن اعتصامات كثيرة لفئات مختلفة ولأسباب مختلفة.. لا يهم إن كان أصحاب هذه الاعتصامات على حق أو على غير حق.. لكنهم جميعا اكتشفوا أن أقصر طريق للحصول على مطالبهم من الحكومة هو الاعتصام!.. وهكذا قامت الحكومة بنفسها بإعطاء دروس مجانية للمواطنين فى كيفية إرغامها على قبول مطالبهم المشروعة وغير المشروعة.. كل ذلك لأن الحكومة تأخرت ولم تركب القطار فى موعده!.. وليس هناك أخطر من تأخر الحكومة عن اللحاق بالقطار.. وليس من قبيل المبالغة أن أقول إن معظم الكوارث التى نعيشها اليوم سببها الحقيقى تأخر الحكومة ومحاولة اللحاق بالقطار.. دون جدوى!.. مشكلة العشوائيات مثلاً.. أهم أسبابها أن الحكومة انشغلت أو تشاغلت عن حل أزمة الإسكان.. وعاما بعد عام تحولت الأزمة إلى داء مستحكم عانى منه الناس كثيراً.. عانوا من جشع مُلاّك العمارات وتقاعس الحكومة.. وفرضت ظاهرة التمليك نفسها على المجتمع واختفت لافتة «للإيجار».. وأصبح التمليك فوق قدرة الغالبية العظمى.. وصبر الناس وتحملوا لكنهم فى النهاية تصرفوا.. فاتجهوا وحدهم للمناطق المتطرفة وراحوا يبنون مساكنهم بطريقة عشوائية لأنهم بالطبع لا يملكون خبرات الحكومة وإمكانياتها.. فظهرت العشوائيات التى أصبحت فيما بعد بؤراً للإرهاب والتطرف والجريمة.. وانتبهت الحكومة مؤخراً وبدأت تتحرك بسرعة لتلحق بالقطار فوجدت نفسها مطالبة بحل جذرى لأزمة الإسكان حتى لا يزيد حجم العشوائيات.. ثم إيجاد حل لمشكلة العشوائيات نفسها.. نفس الوضع بالنسبة لأزمة المواصلات.. انشغلت الحكومة وتشاغلت.. فظهرت عشوائيات الطريق.. الميكروباص و«التوك توك».. وكلها قنابل موقوتة تسير على عجلات.. وعندما تحركت الحكومة متأخرة وجدت أن عليها أولاً حل أزمة المواصلات.. ثم حل مشكلة وسائل النقل العشوائية.. كل ذلك لأن الحكومة تتحرك متأخرة للحاق بالقطار!.. *** ليس فى وسع أحد أن ينكر أن الحكومة قامت بجهود حقيقية لإصلاح اقتصاد مصر.. وعلى الرغم من كل ما يشكو منه المواطن من ارتفاع فى أسعار السلع والمواد المختلفة فإن الاقتصاد المصرى يتعافى.. ومن المؤكد أن اليوم أفضل من أمس.. وغدا أفضل من الاثنين.. لكن من قال إن الاقتصاد وحده يكفى؟!.. هناك السياسة أيضاً!..