لعل مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأدنى جيفرى فلتمان لم يتوقع هذا الحصار الإعلامى المصرى الذى شهد حضور خمسة من رؤساء التحرير وكبار الإعلاميين، ولعله أيضاً لم يتوقع أن يكون مستمعاً.. فى كثير من أجزاء الحوار.. بدلاً من أن يكون صاحب الدفة ومحور الحديث!.. وخلال هذه المقابلة التى شهدها وشارك فيها كاتب هذه السطور تحدث فلتمان عن الحوار الاستراتيجى بين مصر والولاياتالمتحدة.. وجاءت الإشارة إليه بصورة عابرة تحتاج إلى مزيد من التفصيل والتأصيل. بداية يجب أن نتفق على ماهية الحوار الاستراتيجى، فالمتعارف عليه أن الإطار الاستراتيجى يقوم على أسس أعمق وأشمل وأكثر استقرارا من أى حوار آخر.. فهناك حوارات «الإخوة الأعداء».. و«حوارات الأعداء».. وحوارات «الاشقاء والاصدقاء».. وأخيراً حوار «الحلفاء الاستراتيجيين» وهو الدرجة الأرقى والأعلى فى مستويات الحوار، وحتى نكون واقعيين فإن الحوار المصرى الأمريكى لم يرق إلى هذا المستوى الأخير حتى الآن لاعتبارات عديدة.. ولكن هذا الحوار الاستراتيجى القائم بين القاهرةوواشنطن منذ سنوات طويلة لم يشهد التطور المطلوب والمأمول ولم يحظ اسمه بكثير من الحظ والنصيب، ورغم اتساع نطاق الحوار بين مصر والولاياتالمتحدة إلا أنه يجب الإشارة إلى تطور ين هامين: الأول هو: تقلص مساحة الاتفاق، الثانى هو: زيادة مساحة الاختلاف حول العديد من القضايا الثنائية والإقليمية والدولية بين الطرفين. مساحة الاختلاف/U/ هذه المساحة تشمل قضايا السودان وفلسطين والعراق وعملية السلام وإيران.. إضافة إلى العلاقات الثنائية، فنحن نختلف مع واشنطن على معالجة القضية السودانية بشكل جذرى، حيث أن الولاياتالمتحدة تنحاز بصورة سافرة ومطلقة للطرف الجنوبى، بل إنها أعلنت صراحة أنها أقرب إلى تأييد الانفصال وحذر أوباما شخصياً من سقوط ملايين الضحايا فى جنوب السودان إذا لم يتم الاستفتاء المقرر فى يناير القادم.. فى موعده.. وكل التحركات الأمريكية فى الشأن السودانى تسير فى اتجاه واحد.. ضرورة تحقيق الانفصال وكأنهم يقررون سلفاً نتيجة الاستفتاء من واشنطن.. وليس من قلب السودان. أيضاً نختلف حول عملية السلام والمعالجة الأمريكية الضعيفة والمترددة.. بل المنحازة لإسرائيل على طول الخط.. وكلنا يلاحظ مدى ضعف وتراجع الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن وعودها بإقامة الدولة الفلسطينية.. بدءاً من وعد بوش بإقامتها قبل نهاية ولايته الثانية.. وانتهاء بوعد أوباما بإقامتها فى أقرب وقت، وفيما يتعلق بالاستيطان تراجعت واشنطن وضغطت حتى تتواصل المفاوضات. مع استمرار الاستيطان، بل أنها تكاد تلمح وتصرح بأن إسرائيل دولة الشعب اليهودى.. أيضاً نختلف مع واشنطن فى معالجة الملف الإيرانى بتنويعاته المختلفة فنحن ضد اللجوء إلى استخدام القوة لمعالجة هذه القضية.. من خلال تجارب عميقة وعديدة شهدتها المنطقة والعالم.. وأيضاً من خلال تجارب مصرية عربية - إسرائيلية دامية على مدى عقود، ونرفض أيضاً ازدواجية المعايير فى معالجة الملف النووى الإيرانى.. فمصر تسعى لإخلاء المنطقة كلها من أسلحة الدمار الشامل بينما تعتبر واشنطن وأغلب الدول الغربية إسرائيل من المحرمات التى لا يجب تناولها أو ذكرها. حتى الملف العراقى.. نحن نرفض أن يتم ادخاله ضمن لعبة النفوذ بين واشنطن وطهران. أو غيرها من العواصم، فالعراق ووحدته وسيادته أمور غير قابلة للنقاش أو التفاوض أو حتى التلاعب، نحن ننظر للعراق كدولة عربية شقيقة تحاول استعادة دورها ومكانتها اللائقة رغم كل ما تواجهه من تحديات داخلية وخارجية.. نختلف مع واشنطن ومع مساعد وزير الخارجية الأمريكية أيضاً فيما يخص الشأن الداخلى المصرى.. فنحن لا نقبل أن يتحدث عن المجتمع المدنى المصرى.. وكأنه مجتمع فى المريخ أو قادم من كوكب آخر.. فهذا المجتمع نتاج تفاعلات وطنية مصرية خالصة .. بدأ هكذا .. ويجب أن يستمر هكذا.. ولا شأن لواشنطن به.. رغم محاولتها بناء قنوات حوار وتوجيه البقية الباقية من المساعدات لدعم تيارات واتجاهات معينة .. وللأسف الشديد فإن هناك من يساعد الولاياتالمتحدة من بيننا ومن قلب هذا المجتمع المدنى المصرى - سواء لأسباب مادية أو لأهداف سياسية - وفى كل الأحوال يجب على قادة هذا المجتمع المدنى أن يراعوا مصالح مصر الاستراتيجية والقومية.. فهى فوق كل اعتبار وبعيدة عن أى مساومات أو تلاعبات.. ولعلنا هنا نعرض موقف الأحزاب الإسرائيلية (رغم اختلافنا الشديد معها) .. فإنها لا تساوم على مصالح إسرائيل اليهودية والصهيونية حتى ولو مع العم سام الذى ساهم فى إنشائها ودعمها.. حتى الآن.. مساحة الاتفاق/U/ خلال الحوار مع مساعد وزير الخارجية الأمريكية جيفرى فلتمان تحدث عن المعايير العالمية للديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات التى تسعى واشنطن لتطبيقها فى مختلف الانحاء .. ولكنه واجه عاصفة من الاختلاف والنقد الشديد من المشاركين فى الحوار.. فهذه المعايير لا يتم تطبيقها على كافة الدول بذات الشدة والحدة وبنفس القدر من المصداقية.. فواشنطن تتحدث عن تراجع الحريات والحقوق على هواها.. ووفق آرائها.. فهناك دول دكتاتورية مستبدة.. عاثت فى الأرض فساداً ولم تتحدث عنها واشنطن.. بل ساعدت قادتها وحكامها.. على خرق كافة المعايير الديموقراطية.. وإسرائيل أبرز النماذج على ذلك.. إسرائيل العنصرية المحتلة الفاشية التى خاضت الحروب ضد جيرانها.. واقتلعت شعباً من جذوره.. وقتلت ومازالت تقتل وتأسر آلاف الأبرياء.. هذه الدولة «اليهودية» نموذج للديمقراطية.. ولا يجب المساس بها أو الحديث عنها.. وحتى نكون أكثر صراحة.. لايمكن الضغط عليها.. بل هى التى تضغط على واشنطن.. وعلى ساكن البيت الأبيض .. فينصاع.. وتُطاع. إذاً فنحن نتفق مع واشنطن حول الحريات وحقوق الإنسان ونشر الديموقراطية.. ولكن دون ازدواجية للمعايير.. وأن تنبع كل هذه العملية من قلب كل دولة ووفقاً لخصوصياتها ورؤاها. أيضاً نحن نتفق معها على عملية السلام الشاملة التى تضم كافة أطراف الصراع.. ولكن ما يحدث اليوم هو وأد للسلام بكل الوضوح .. والقاتل هو إسرائيل تساعدها فى ذلك الولاياتالمتحدة وحلفاؤهما.. ولو بالصمت. المريب ولعل واشنطن تدرك أن السلام والاستقرار فى المنطقة هو من أهم مصالحها الاستراتيجية وأيضا من مصلحة كل الدول والأطراف.. بما فيها اسرائيل التى لا تدرك مصلحتها. وتعمل ضدها. نحن نتفق مع واشطن على أن الاستقرار وازدهار ورخاء المنطقة هو ركيزة أساسية لتخلص من مشاكلها.. وأن المدخل الوحيد لتحقيق هذا هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية وليس الفلسطينية وحدها. أسس الحوار/U/ إذا كانت واشنطن تريد حوارا استراتيجياً ناجحاً وفعالاً مع مصر.. فعليها أولاً أن تحترم إرادتها وسيادتها وقرارها وأن تلغى تماماً من حساباتها لعبة الضغوط والتهديدات والاغراءات - ويجب على الطرفين - مصر والولاياتالمتحدة - الإقرار بالاتفاق على مبدأ الاختلاف فى الرأى والرؤى والمواقف السياسية فهذا هو جوهر الديموقراطية التى تنادى بها واشنطن. أيضاً يجب ألا ينحصر هذا الحوار فى عملية السلام وألا نختزله فى المشكلة الفلسطينية فهناك قضايا كثيرة وخطيرة تتطلب التعاون الصادق والمخلص من الدولتين.. ولا تحتمل التأجيل أو التلاعب.. ومنها مواجهة الإرهاب وتحقيق التنمية.. أخيراً.. إذا أرادت واشنطن لهذا الحوار الاستمرار والنجاح فعليها ألا تخضع لضغوط «إيباك» أو اللوبى الصهيونى النافذ فى الولاياتالمتحدة صحيح أن هذا اللوبى يحظى بقوة كبيرة ولكننا نرى أننا نبالغ فى تقديره.. كما يبالغ الأمريكيون فى تصويره. ولعل مساعد وزير الخارجية الأمريكية يقرأ هذه الرسالة ويحاول الاسترشاد بها من أجل رغبة صادقة فى تطوير العلاقات بين القاهرةوواشنطن.