دائما ما يردد البابا شنودة بأن «مصر وطن.. يعيش فينا، وليست مجرد بلد نعيش فيه»، وهو تعبير جميل وبليغ ويكشف أن «المواطنة» ليست مجرد تشريعات حتى وإن وردت فى الدستور، وإنما هى «إحساس» وشعور قوى بالانتماء لمجموعة من العناصر والقيم التى يتشكل منها الوطن، وهى الأرض والشعب والتاريخ.. والمستقبل. لقد بدت كلمة (المواطنة) التى وردت فى التعديلات الدستورية الأخيرة وكأنها (بدعة) مصرية جديدة.. مع أنها -كمعنى- موجودة منذ الأزل وظلت ملازمة للأجيال المصرية المتعاقبة.. بداية من الفراعنة وحتى الآن وكافة التشريعات المصرية القديمة والحديثة نصت على أن جميع المصريين متساوون فى الحقوق والواجبات وأنهم أيضا سواء أمام القانون ولا فرق بينهم بسبب النوع أو الدين أو اللون. وقد يحدث أحيانا- ولظروف سياسية أو اقتصادية- أن تعلو طبقة فوق أخرى أو تثرى فئة على حساب فئات أخرى، ولكن دائما وأبدا ظل المصريون سواسية وشركاء فى السراء والضراء، ومن ثم فالأحداث المتتابعة والحديث المتكرر عنها من أنها تمثل بذورا لفتنة طائفية نائمة.. لعن الله- من أيقظها- هى مجرد «بدعة» إعلامية مختلقة لا علاقة لها بطبيعة المصريين وما جبلوا عليه من التسامح والمحبة والإخوة وإذا كان بعض الشباب قد ألقى بنفسه فى البحر على ظهر مركب متهالك.. غرق أو احترق بمن عليه.. فما حدث ومازال يحدث لا علاقة لها «بالمواطنة» والانتماء لمصر وإنما هى أسباب اقتصادية واجتماعية فضلا عن (حماس) الشباب واندفاعهم ومقاومتهم للبحث عن فرص أفضل للكسب لتحسين مستوى معيشة أسرهم، وهو حماس مرغوب ومطلوب ومشروع.. بشرط أن يقنن وينظم فيما يسمى بالهجرة الشرعية وإلا فسوف نستمر فى استقبال الضحايا من هذا الاندفاع غير المنظم نحو المجهول.. تماما كما نقرأ ونسمع يوميا عن آلاف الضحايا من حوادث المرور على الطرق المصرية السريعة بسبب الاستهتار واللامبالاة وعدم الانضباط وغياب الرقابة المطلوبة.. أى غياب مفهوم «المواطنة» الصحيح حيث يجب أن تقوم بواجباتك.. كما تطالب بحقوقك.. فالبعض لا يقوم بمهام وظيفته المكلف بها من قبل المجتمع.. بينما نجده يسب ويلعن الظروف والأوضاع غير الصحيحة، فضلا عن قلة الحيلة وارتفاع الأسعار وينسى تماما أنه ساهم فى ذلك، وأنه من أعمالكم سُلط عليكم. *** أقول ذلك بمناسبة مشاركتى فى الحفل الختامى للمرحلة الثانية لبرنامج «شركاء» للشباب والإعلام والذى تم فى مرحلته الأولى مع طلاب المدارس بالتعاون مع (11) جمعية أهلية فى أربع محافظات وفى مرحلته الثانية مع خمس جامعات مصرية هى: القاهرةوالإسكندريةوالمنياوجنوب الوادى وقناة السويس وهو برنامج تقوم بتنفيذه مؤسسة إنترنيوز بالتعاون مع الجامعات السابقة وبتمويل من هيئة المعونة الأمريكية، ويستهدف نشر وتطبيق مفهوم المواطنة من خلال تدريب طلاب الجامعات المصرية على كيفية استخدام وسائل الإعلام فى طرح القضايا المجتمعية المحيطة بهم، أى تحويل المواطنة من مجرد شعار إلى حقيقة على أرض الواقع من خلال تنظيم ورش عمل لتدريب الطلاب على كيفية تحديد المشكلة وجمع المعلومات حولها، وتحليل البيانات والاتصال بالمسئولين للوصول إلى حلول مناسبة، ذلك إلى جانب تعظيم قدراتهم ومهاراتهم الشخصية وتعميق الممارسات الديمقراطية داخل الجامعات المصرية من خلال إنشاء «نوادى المواطنة» لتكون الآلية التى يعملون من خلالها ليؤهلوا أنفسهم لمواجهة الحياة العملية بعد التخرج. وقد أعجبنى حماس جيمس بيفر رئيس هيئة المعونة الأمريكيةبالقاهرة للمشروع وللشباب وما قدموه من أفكار وما عرضوه من منتجات إعلامية عبرت عن مشاكل حقيقية فى المجتمع، مشيرا إلى أن المواطن الجيد هو الذى يشارك فى قضايا مجتمعه، موضحا أن الإعلام والمواطنة والمجتمع المدنى هى أحجار الزاوية لأى مجتمع صحى، كما أنها جميعا تمثل استثمارات مهمة فى مستقبل الشباب الذى اكتسب- من خلال المشروع- مهارات إضافية وثقة بالنفس وكيفية الوصول إلى حلول وسط ومناسبة للقضايا المجتمعية. لقد تذكر جيمس ما قام به فى مرحلة الشباب، عندما قام ومجموعة من الأصدقاء بتنظيف أحد الشواطئ الأمريكية المهملة والذى أصبح فيما بعد من أكثر الشواطئ جذبا للسياحة الداخلية، وهو ما شاهد مثله فى الحفل الختامى لبرنامج شركاء. *** لقد عبر شباب نوادى المواطنة فى الجامعات المصرية الخمس من خلال المشاركة فى البرنامج عن «المواطنة» بأفضل صور التعبير سواء من خلال أفلام تليفزيونية قصيرة أو بمسلسلات إذاعية موجزة. فقد قدمت جامعة القاهرة فيلما بعنوان «صندوق خشب» حيث يضطر أحد الشباب للاستعانة بالكنيسة للحصول على صندوق خشب ويزيل من عليه علامات الصليب ويذهب للمستشفى، حيث يرقد صديقه متوفيا إثر حادث تصادم بالطريق ويضعه فيه وينقله إلى مسقط رأسه ليصلى عليه أهله صلاة الفجر ثم يدفنونه فى مدافنهم، ونكتشف فى نهاية الفيلم أن هذا الشاب الشهم والصديق الوفى هو مسيحى الديانة، فهل هناك «مواطنة» أفضل من ذلك؟.. وهل هناك صورة أفضل مما رأيناه للتعبير عنها؟. وكذلك قدمت جامعة المنيا فيلما بعنوان «مركب ورق» لمناقشة موضوع هجرة الشباب إلى الخارج ملقين بأنفسهم فى مراكب قديمة تتقاذفها الأمواج وغالبا ما تغرق إلى القاع ولا تصل بهم إلى شاطئ الجنة الموعودة كما يتوقعون.. وينتهى الفيلم بمشهد أحد الشباب- الراغب فى السفر- وهو يفتتح مشروعه الجديد (محل صغير لأجهزة الكمبيوتر) وسط سعادة غامرة من كل المحيطين به من أهله وجيرانه، إنها «المواطنة»، حيث المساهمة فى تنمية البلد ومحاولة خلق فرص عمل جديدة لغيره من الشباب. وأيضا قدمت جامعة قناة السويس فيلما تسجيليا عن نشاط فعلى قام به شباب الجامعة.. حيث زاروا شاطئ بورسعيد فوجدوه لا يسر عدوا ولا حبيبا.. القذارة فى كل مكان والزبالة مرتع للقطط والفئران فأخذوا على عاتقهم نظافته، وتوزيع أكياس لجمع الزبالة على المصطافين، فضلا عن تزويد الشاطئ بمجموعة من اللوحات الارشادية حول أهمية النظافة وكيفية التخلص من الفضلات. وحاربت كل من جامعتى الإسكندريةوجنوب الوادى عادتين مكروهتين الأولى التدخين وأضراره.. والثانية الزواج بالإكراه.. وهى ظاهرة منتشرة بين العائلات فى جنوب الصعيد، حيث الإصرار على زواج الفتاة.. وإن كانت متعلمة وحاصلة على أعلى الشهادات- من شاب ذات العائلة حتى ولو كان جاهلا ولم يحصل فى حياته إلا على شهادتى الميلاد والتحصين ضد الحصبة! لقد عبر شباب نوادى «المواطنة» بالجامعات المصرية.. عن إحساسهم وشعورهم بالانتماء نحو هذا البلد من خلال منتجات إعلامية سواء كانت أفلاما أو مسلسلات.. وهو ما يؤكد أن «المواطنة» إحساس وشعور وليست مجرد «طنطنة» بتشريعات أو شعارات سرعان ما تذهب أدراج الرياح. *** شبابنا بخير.. ولا عزاء للمتنطعين المتفذلكين.. الانتيكات.. مناضلى آخر زمن فى القهاوى والبارات.