هذا كتاب مهم للغاية، فهو يتيح للقارئ الإسرائيلى وبلغته العبرية معايشة نسيج الحياة غير الممكن لعربى إسرائيلى يعيش وسط المجتمع اليهودى وبين ظهرانيه ولا يراه. الكتاب اسمه (إلى يافا) وهو باكورة إبداعات الأديب والناقد العربى أيمن سكسك ويقع فى 142 صفحة وصادر عن دار نشر (يديعوت سفاريم). يبدأ الكتاب بأبيات من الشعر مأخوذة عن ديوان (أنا أكتب بالعبرية) للشاعر سلمان مصالحة يقول فيها: أكتب بالعبرية التى هى ليست لغتى الأم لكى أضيع فى هذا العالم، فمن لم يضع لن يجد الكمال، لأن نفس الأصابع موجودة فى كف قدم الجميع، ونفس إبهام القدم يسير بجوار الكعب. والكتاب فى مجمله يدور حول مسألة الهوية التى تؤرق شاباً عربياً مسلماً، هو على ما يبدو أيمن سكسك نفسه، ترعرع وكبر فى مدينة يافا التى تضم خليطاً من اليهود والمسلمين والمسيحيين فى عالم مضطرب ملىءء بالنزاعات، وهذا هو الطريق الذى يقفز فيه الراوى من الجامعة العبرية فى القدس حيث يدرس إلى بيت والدته فى يافا، فى الشق الفاصل ما بين الشرق والغرب فهو طريق بين عالمين متناقضين: العالم الذى رضعه من والديه ومن المجتمع الإسلامى التقليدى والعالم الذى تمثله إسرائيل اليهودية العلمانية مجسداً فى مدينة تل أبيب الملاصقة لمدينته يافا. عالم القيم/U/ والرسائل التى يتلقاها الراوى بخصوص موقعه الصحيح فى المجتمع تضغط عليه لكى يواصل الذهاب إلى المسجد والصلاة مع والده، ثم بعد ذلك يترك دراسته الجامعية ويساعد أمه التى ترملت بعد وفاة والده فى حادثة عمل، لكن الراوى فى (إلى يافا) يختار طريقاً آخر حيث يذهب لدراسة الأدب العالمى بالجامعة العبرية التى هى إحدى قلاع الفكر الغربى،وهكذا نجد أن الصراع الداخلى هنا هو مصدر قوة الراوى ومصدر ضعفه أيضاً. مصدر قوته لأنه يختار بحرية أن يحقق ذاته من خلال ما يحب، ويختار أن يُلقى على كاهله عالم القيم الذى يتشكك فيه، وهو اختيار يمكّنه من رؤية كلا العالمين بصورة واعية ومن أعلى. ومصدر ضعفه لأن تأنيب الضمير يمزقه لأنه لم يتحمل المسئولية التى كان عليه تحملها وهى أن يساعد أمه وأخته، «سماهر»، فى إيجاد لقمة العيش بعد وفاة الوالد، فهو قد ترك الأم لمساعدة شقيقيها، خاليه، اللذين يقومان أيضا بدفع تكاليف دراسته ودراسة أخته، كما أنه هنا يدير ظهره لثقافته وجذوره. لم يخرج صوته عندما قاموا بتزويج أخته، سماهر، والتى كانت تحلم بالضبط مثلما يحلم هو بالافلات من الحلقة الخانقة السائدة فى المجتمع التقليدى، وعندما تتخلى عن استكمال دراستها لم يقف إلى جانبها ولم يقل لها ما تمنت أن يقوله: لا تتركى الدراسة ولا تتزوجى بمن لا تحبين وبهذا الطريقة التقليدية. كما أنه أيضاً لم يستطع الوقوف إلى جانب محبوبته، شريهان، عندما قاموا بخطبتها لرجل لا تعرفه، وجاء رد فعله سلبياً للغاية وتسبب فى كثير من الحرج لأمه عندما هرب من حفل الزواج. بهذه النفس المتنازعة التى يوهنها الصراع الداخلى بصورة دائمة، لم يعد له مكان للوقوف على قدميه ويفقد الراوى ثقته فى نفسه، فهو لا يستطيع أن يكون عكازاً لأمه ولا يتمكن من مساعدة أخته ولا محبوبته، ولا ينجح فى الوقوف بجانبهما كرجل.. أن يتحمل مسئولياته كرجل، ولذلك، فهو لا يقف أيضاً إلى جانب عربيين مرا بعملية تفتيش فى المعرض، وإنما يوافق على أن تسحبه من هناك صديقته اليهودية الإسرائيلية، نيتسان ويصمت عندما تمر فلسطينية فقيرة بعملية تفتيش مهينة فى الأتوبيس. هوية فى المصيدة/U/ البطل فى كتاب أيمن سكسك هو بطل عكسى.. هو النقيض تماماً من جيسون بورن، العميل السرى الذى أصيب بفقدان للذاكرة، وأخذ يصارع من أجل اكتشاف هويته، ففى فيلم (هوية فى المصيدة) الذى ورد ذكره فى الكتاب يقوم جيسون بورن عميل المخابرات بتصفية أعدائه بشكل منهجى وهو ينتقل من مدينة إلى أخرى فى أوروبا ويتخلص من المصيدة التى أعدتها له أجهزة المخابرات، أما بطل سكسك فيكتفى بالإعراب عن سعادته ويقول: أنا سعيد من أجل جيسون.. بالتأكيد لم يكن من السهل عليه العيش بدون هوية. لكن سكسك يفضل اللجوء لأسلوب المباشرة لتوصيل المعنى الذى يريد أن يوصله على امتداد الكتاب، فعندما يعود الراوى إلى البيت بعد مشاهدة الفيلم مع أخته ، يناديها وهى فى المطبخ: سماهر، قلت لى ما اسم هذا الفيلم؟، فترد عليه «هوية فى المصيدة» ويقع كأس الشراب من يده!. ويقوم سكسك فى كتابه بتعرية اليهود ويقدمهم كمن يفرقون بين العربى الجيد.. العربى الصديق الشخصى، وبين العربى بصفة عامة والذى لعدم معرفتهم بهم يتحول فى أعينهم بشكل تلقائى إلى شرير مشتبه به، لكنهم يرسلون ولداً عربياً من الأغيار، ليشعل الضوء فى المعبد المظلم يوم السبت، أى ليقوم بالعمل المحرم عليهم بدلاً منهم!. ولا يمر سكسك مر الكرام على الانغلاق والخوف من الغريب والمختلف فى المجتمع العربى: فعندما تتمايل أمه بسلال ثقيلة على الرصيف ويحاول عامل أجنبى صينى-شخصى من الدرجة السابعة فى إسرائيل-مساعدتها، تخاف أمه وتمسك السلال بقوة وبخوف، ويحكى كيف أن نزهة ليلية على الأقدام فى ضاحية عربية مجاورة تتحول إلى تعبير عن العداء والتشكيك وأسئلة من عينة: ماذا تفعل هنا؟.. من أنت؟.. الأفضل أن تذهب.. هل تسمع؟. ويستخدم سكسك فى كتابه الكثير من السخرية للتعبير عن السخرية الأساسية فى وضع عرب إسرائيل وهى السخرية الموجودة فى مجرد الاسم (عربى-إسرائيلى) فيقدم هذا النوع من السخرية عندما تحصل محبوبته شريهان، على منحة دراسية بالجامعة مقدمة من صندوق (طليعة الاستيطان اليهودى فى فلسطين) وعندما يتم خلال الحفل عزف النشيد الوطنى الإسرائيل وترديد كلماته: (لنكن شعباً حراً فى أرضنا).. بيت جدى/U/ ويقدم هذه السخرية أيضاً عندما تشرح له محبوبته اليهودية، نيتسان، طبيعة عملها كحارسة أمن، وكيف انهم دربوها على ضرورة اتخاذ القرار بسرعة عندما ترى الأشخاص فالأشخاص ذوو البشرة الداكنة يجعلون النور الاحمر يضاء فى داخلها. وعلى امتداد الكتاب يبحث الراوى ويوثق جذوره وثقافته المدمرة، كل ما تبقى من بيت جدى لأمى والبيوت المحيطة به أكوام كبيرة من الرمال والمعادن تقف فى مواجهة البحر وتعطى ظهرها بخزى للمساكن الفارهة الحديثة التى تم بناؤها على امتداد الشاطئ. ويحاول سكسك على امتداد الكتاب أيضاً البحث عن هويته من خلال كلمات بالعربية على أغطية البالوعات فى المدينة تحمل اسم (صندوق فلسطين) وهى ربما محاولة لإعادة الامتلاك عن طريق اللغة، وربما يسعى من خلالها ، للحصول على اعتراف من الثقافة الإسرائيلية اليهودية المحتلة بالثقافة العربية الفلسطينية، وربما أيضاً يسعى من خلال ذلك للعثور على رابط ممكن بين الثقافتين.. رابط قد يمنحه مكاناً فى العالم ويتيح له تسوية، ولو جزئية مع الصراع الداخلى الذى يعانى منه.