لم أكن أود أن أتناول مثل هذه القضايا الشائكة والمتشابكة والتى تتعلق بما نطالب به دائما وهو المزيد من الحريات اتساقا مع النهج السائد لما نحياه الآن من حرية غير مسبوقة فى مصر وفى منطقتنا العربية، وأقصد قضية البث الفضائى بشكل عام ثم الوقائع الأخيرة التى حدثت بين شبكة أوربت الفضائية ومدينة الإنتاج الإعلامى كطرفين متنازعين حول تسوية بعض الديون بينهما، ولكننا يمكن أن نخرج من هذا المأزق إذا ما اعتبرنا أن مدينة الإنتاج الإعلامى المعنية بتقديم مختلف خدمات التشغيل على اختلاف نوعياتها هى أولا وأخيرا كيان اقتصادى مستقل شأنه شأن المؤسسات الاقتصادية الأخرى والتى تقوم قواعدها على مبدأ الربح والخسارة، وهذا أمر مؤكد لا يقبل الجدل، حيث إن ضمان استمراريتها فى أداء رسالتها الإعلامية مشروط بنمو اقتصادى يتيح لها ذلك إلى جانب سداد الإنفاقات الضرورية كالعمالة وتكلفة التشغيل وغيرها من منافذ الإنفاق الأخرى وعلى ذلك فإن ما حدث لا يندرج مطلقا حول ما تضمنته بعض التصريحات المغرضة وما ذكرته كثير من المقالات الصحفية بدعوى باطلة توهم القراء بأن هناك من يعلم بواطن الأمور حين تردد أن وراء هذه الأزمة دواعى سياسية، وذلك لأن إحدى قنوات أوربت تذيع أقدم برامج التوك شوفى القنوات العربية منذ إحدى عشرة سنة وهو برنامج (القاهرة اليوم) الذى يقدمه الإعلامى الشهير عمرو أديب فضلا عن خصوصية الأوربت فى علاقتها القديمة بشركة الأقمار المصرية ومدينة الإنتاج الإعلامى، حيث كانت أولى الشبكات الفضائية التى اشتركت فى النايل سات وأسست استوديوهاتها بالمدينة، وهذا يفسر لنا حرص مدينة الإنتاج الإعلامى على استمرارية الأوربت، وذلك بتكرار الإنذارات لعدم سداد ديونها حتى وصلت إلى أكثر من ثلاثين مليون دولار مما قد يصيب الشركة المصرية وما يتبعها من مؤسسات إعلامية بخسارة فادحة يصعب تعويضها فضلا عن تكرار المماطلة من أوربت فى جدولة ديونها المتراكمة. وهنا كان لابد من موقف صارم وحاسم وهو ما قد حدث حين أصرت إدارة مدينة الإنتاج الإعلامى على نسخ التعاقد واستبعادها لأية محاولات للتفاهم، وخاصة حين اقترحت الأوربت تجزئة الدين. وهنا توقع المسئولون بالمدينة مزيدا من المماطلة لدرجة أنهم رفضوا قبول الشيكات بالمديونية كاملة وأصدروا قرارا نهائيا بفسخ العقد وإنهاء كل صيغ التعامل السابقة وهنا تحولت القضية لتثير جدلا أبعد ما يكون عن المصداقية حول مساحة الحرية المتاحة. والدليل القاطع الذى يدحض هذه الأكذوبة هو قرابة الألف قناة على أقمارنا المصرية تعمل بحرية تامة دون أى نوع من أنواع الرقابة إلا ما يتعلق بأمننا القومى ومقدساتنا الدينية، أما دون ذلك فلم تشهد الساحة الإعلامية العربية ما تشهده الآن من سقف عال للحرية يعتمد على الرقابة الذاتية فقط لدى الإعلاميين وقد أثار ذلك شيئا من خيبة الأمل لدى جماهير أوربت والتى ارتبطت ببرامجها المتميزة، ولكن بصيصا من أمل راود الجميع حيث لا حت فى الأفق بعض الفرص المتاحة لعقد جديد يضمن لمدينة الإنتاج الإعلامى مستحقاتها. وفى نفس الوقت لا يوقع (أوربت) فى عثرات مالية مماثلة فى المستقبل، وهنا تتجاوز هذه النتائج قضية أوربت لتنسحب على أكثر من قناة أصابها التعثر ووصلت ديونها إلى أرقام يعجز ممولوها عن سدادها وأعتقد أن الحل الأوحد لمثل هذه القضية هو وضع ضوابط أكثر صرامة لمشروع بث أية قناة فضائية مثلما يحدث عن إصرار صحيفة أو مجلة وهو أن يكون لديها رصيد مالى يضمن لها النجاة من الإفلاس وفى نفس الوقت يضمن أحقية مقدم الخدمات الإعلامية فيما يتقاضاه وفق العقود المبرمة بينهما.. فهل يمكن للشئون القانونية لدى الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامى أن تضع مثل هذه الضوابط والضمانات كبنود صريحة للتعاقد مع القنوات الفضائية حتى لا تتكرر مثل هذه العشوائية فى البث الفضائى، وكذلك مثل ما أثير من زوابع جوفاء وحتى لا يحملها البعض زورا وزعما باطلا بأن ما حدث كان لدواع سياسية وهى أبعد ما تكون عن ذلك.