بكل الأسى والحزن والخوف من المستقبل - القريب وليس البعيد- أكاد أرى أن السودان الشقيق مقبل على أخطر مراحله. وربما معه المنطقة برمتها.. ضمن التغيرات التى نشهدها وسوف نشهدها خلال الشهور والسنوات القادمة. السودان مقبل على احتمالين: حرب أو سلام. وللأسف الشديد أيضا فإن الاحتمال الأول هو الأرجح ما لم يتم الاستفتاء على مصير جنوب السودان.. ثم الانفصال «الأرجح» بهدوء ودون مشاكل. وهذا احتمال مستبعد أيضا استنادا لواقع السودان الحالى والسابق. وانطلاقا من رؤية عميقة للساحة السياسية الخطيرة.. داخل السودان وخارجه.ولو طالعنا واقع جنوب السودان.. فإننا نكاد نشهد دولة قائمة فعليا.. دون إعلان رسمى.. حتى إن هذه الدولة قد أتمت إعداد دستورها.. واستقرت تقريبا على حدودها. وهذه مسألة حيوية ومصيرية. وإذا كان الطرفان اللدودان «فى الشمال والجنوب» قد استقرا على مبدأ ترسيم الحدود.. فإن هناك خلافات واسعة على ترسيم المناطق الغنية بالنفط والثروات الطبيعية. وقد كان مفترضا الانتهاء من هذا الترسيم بعد خمسة أشهر من توقيع اتفاق السلام «الشامل» فى نيفاشا. ومنطقة «هجليج» هى إحدى نقاط الاختلاف حيث تعتبرها الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان تابعة لولاية الوحدة بينما تؤكد حكومة السودان أنها تدخل ضمن إطار ولاية جنوب كردفان. ومنطقة أخرى هى ما كافى كنجى «الغنية بالنحاس والكوبالت والحديد.. وتقع بين جنوب دارفور وبحر الغزال وهى تدخل ضمن مناطق الخلاف الحدودى الحاد! وقد انعكس هذا الخلاف «الحدودى» على الوضعية القتالية للجيش السودانى وجيش الجبهة الشعبية! نعم لقد كانت الحركة الشعبية مجرد حركة متمردة أو مقاومة لديها مقاتلون وأنصار وتسليح خفيف. أما الآن فنحن نتحدث عن جيش ل «دولة جنوب السودان».. جيش بكل ما تعنيه الكلمة. بل إن الأنباء تحدثت عن سعى هذه «الدولة» الوشيكة لامتلاك طائرات وليس من الصعب أن يمتلك دبابات ومصفحات فى ظل الحدود الفضفاضة والمترامية والعلاقات المتشابكة مع الدول المجاورة لجنوب السودان. جيش الجنوب اتخذ مواقع قتالية عدائية فى مواجهة الجيش السودانى الشرعى. ليس فقط دفاعا المناطق الغنية بالثروات الطبيعية.. بل دفاعا عن «كيان» منفصل فعلا.. ويتوقع إعلان انفصاله «رسميا» بعد الاستفتاء فى يناير القادم هذه الوضعية العدائية بين جيشى الجنوب والشمال نبعت من الرؤية السياسية والعلاقات المتنافرة بين الأخوة الأعداء والحقيقة أنهم أقرب إلى العداء منهم للإخوة! الأخطر من ذلك أن الإدارة الأمريكية تعاقدت مع شركة «Dyncorp» بمبلغ 40 مليون دولار لتأهيل قوات الجيش الشعبى وتحويله إلى قوة عسكرية محترفة بعد الانفصال. هذا التطور يؤكد موقف واشنطن العدائى ليس لوحدة السودان فقط.. بل ولكافة القضايا العربية والإسلامية بدءا من أفغانستان.. إلى السودان. ومرورا بالعراق وفلسطين ولبنان. هذه الاستراتيجية العدائية الأمريكية يقودها اليمين المتطرف.. الذى مازال يؤثر فى مسرح الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية ..والعسكرية أيضا.. رغم أنه خارج السلطة رسميا. ولكنه على أرض الواقع يمارس نفوذه ويضع السياسات ولديه مسئولون فى مختلف المواقع والجهات والوزارات ينفذون هذه الاستراتيجية الشيطانية. ونحن لا نبالغ إذا قلنا إن الرئيس أوباما نفسه قد وقع فى براثن هذه المصيدة اليمينية الجبارة والمتصاعدة فى أنحاء العالم الغربى. وليس فى الولاياتالمتحدة وحدها. وقد تحالفت معها الصهيونية العالمية. وتحديداً اللوبى اليهودى فى أمريكا الذى يهيمن فعلا على صناعة السياسة الخارجية الأمريكية فى أغلب القضايا. خاصة الشرق الأوسط. بكل ما يحفل به من تعقيدات ومخاطر. فإسرائيل تريد أن تتحكم – من المنبع- فى أجهزة صناعة السياسة الخارجية الأمريكية. وللأسف الشديد فإن هذا التحالف الشيطانى قاد الولاياتالمتحدة إلى المزالق والمهالك التى يدفع ثمنها المواطن الأمريكى الذى لا تهمه سوى مصلحته ومتعته الشخصية! وقد نجحت هذه الآلة الجبارة فى تكبيله بها.. بمنتهى الخبث والدهاء. دولة جنوب السودان تتأهب لإنشاء «سكة حديد الاستقلال» التى سوف تربط «العاصمة» جوبا بميناء مومباسا الكينى الواقع على المحيط الهندى. فحكومة الجنوب تخطط فعلا وبسرعة فائقة لإنهاء ارتباطها بحكومة الشمال وتسعى لنقل صادراتها خاصة من النفط والثروات المعدنية إلى العالم الخارجى عبر كينيا التى رعت اتفاق الانفصال عام 2005. بمعنى آخر فإن الجنوبيين يرون فى الأفارقة الخيار الأنسب والأقرب لهم سياسيا وجغرافيا وأيديولوجيا أيضا. فحكومة الجنوب تتجه أكثر نحو الجنوب. وتبتعد عن الشمال.. بمواقفها وآرائها.. وبخططها التى تنفذها على أرض الواقع. وبمعنى آخر فإن جنوب السودان لن يكون أقرب إلى العرب.. مهما حاول العرب لسبب جوهرى هو أن فكرة الانفصال هدفها تمزيق المنطقة إلى دويلات صغيرة تسهل السيطرة عليها للغرب عامة. والولاياتالمتحدة وإسرائيل تحديدا فهم لا يريدون كيانات كبرى أو موحدة. يريدون شظايا دول تدخل فى إطار استراتيجيتهم ولا تهدد أمنهم. ويمكنهم التلاعب بها.. واللعب معها. كما يلعبون بالنار فى السودان. وغير السودان. ويجب أن نعترف ونستعد بكل الجدية للمرحلة الجديدة بعد انفصال الجنوب أو حتى فى حال دخوله فى نفق مظلم بالحرب أو عودة التمرد ومصر معنية أكثر من غيرها بما يجرى وسوف يجرى فى السودان الذى يمثل أحد أهم ركائز الأمن القومى العربى ولا تريد أن تنهار تلك الركيزة التى تقع فى قلب القلب العربى.. خاصة بعدما انهارت ركيزة العراق. والوضع بالنسبة لمصر أشد خطورة فأمننا القومى والمائى والسياسى - ولا نبالغ إذا قلنا إن أمننا الاقتصادى - مرتبط بتطورات السودان. فالدولة المتوقعة أكثر ارتباطا بالغرب. وليس سرا أن كثيرا من الترتيبات تم إعدادها بالتعاون مع دول غربية ومع إسرائيل أيضا التى قد تكون من أوائل الدول التى ستعترف ب «دولة الجنوب». وإذا نشأت هذه الدولة فإنها ستكون «الحادية عشرة» ضمن دول حوض النيل. ومنها ينبع أحد موارد النهر الحيوية وسوف يكون لها صوت. قد يكون معنا فى المستقبل القريب.. ولكننا لا نضمنه على المدى البعيد. هذا واقع يجب أن ندركه ونقدر مخاطره وتداعياته على أمننا المائى والغذائى فى ظل عالم يتصارع على لقمة العيش ورغيف القمح. نحن لا نريد البكاء على اللبن المسكوب. فقد سُكب وضاع.. ولكننا يجب ألا نسمح بسكب مزيد من الموارد والمقدرات الحيوية التى تعتبر أمانة فى أعناقنا وحق للأجيال القادمة!